في خطوة جديدة على طريق الإصلاح الإداري والاقتصادي في السعودية، صدر الأمر الملكي بتعديل اسم «هيئة التحقيق والادعاء العام» إلى «النيابة العامة»، ويسمى رئيسها «النائب العام»، وترتبط مباشرة بالملك، وذلك استنادا إلى الفصل بين السلطة التنفيذية في الدولة والهيئة وأعمالها، باعتبارها جزءا من السلطة القضائية، فعندما تكون الهيئة تابعة للجهاز التنفيذي، فإن هذا يعني تحويلها إلى جهاز بيروقراطي يدور في فلك السلطة التنفيذية، مما يضعف من فاعليتها، ولهذا أصبحت وظيفة النيابة العامة شعبة من شعب السلطة القضائية، تقوم بأعمال قضائية كالتحقيق، وأعمال غير قضائية كالاتهام وتنفيذ الأعمال.

وعلى هذا الأساس، فإن قيام السلطة التشريعية بدورها الحقيقي، يستلزم أن يكون هناك فصل بين السلطات

وتوازن بينها، كأساس لفاعلية المحاسبة والمساءلة لأي كائن من كان، بحيث يكون هناك احترام صارم للأنظمة والقوانين، بمعنى أن القانون يجب أن يطبق بالمساواة على جميع الناس، ومن هنا تصبح الرقابة القضائية هي

صمام الأمان للمجتمع، عبر فرض هيبة وسيادة القانون.

وبما أن القرار الملكي السابق تضمن أن تقوم هيئة الخبراء بمجلس الوزراء بمراجعة نظام هيئة التحقيق والادعاء العام، ونظام الإجراءات الجزائية، والأنظمة الأخرى والأوامر والمراسيم الملكية ذات الصلة، واقتراح تعديلها بما يتفق مع ما ورد في القرار، أجد من المناسب هنا التطرق إلى إشكال رئيسي تعاني منه كل الأجهزة الرقابية في المملكة، فيما يتعلق بالمخالفات المالية وقضايا الفساد، وعلاقتها بالهيئات القضائية.

كما هو معلوم، فإن التقارير الرقابية تقدم كشفا لجوانب الانحرافات والقصور في الجهات الحكومية ومعظم المخالفات المالية، دون مساءلة أوعقوبات، وبالتالي تدرك تلك الجهات أن ملاحظات الرقابة مجرد حبر على ورق، وليس لها تأثير سوى «شوشرة مؤقتة» على الجهة، ثم العودة إلى تكرار الممارسات والمخالفات نفسها دون رادع قانوني.

لنأخذ -على سبيل المثال- ديوان المراقبة العامة، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد «نزاهة»، فهما لا يتمتعان بسلطة قضائية، كما أن علاقتهما بهذه السلطة هي علاقة غير مباشرة، إضافة إلى عدم اختصاصهما بمحاكمة المتهمين بالفساد، ولعل عدم الاختصاص له مبرراته التي تتمثل في مبدأ الاستقلالية، إذ لا يستقيم الأمر أن يكون الديوان ونزاهة خصما وحكما في الوقت نفسه، لذلك تتولى السلطة القضائية في الدولة مهمة المحاكمة لاستقلالها عن أطراف النزاع.

أما بخصوص طبيعة العلاقة غير المباشرة بالقضاء، فهي تتمثل في حال اكتشاف مخالفة أو قضية فساد، أن يطلب من الجهة الحكومية إجراء التحقيق اللازم، أو أن يقوم الديوان أو نزاهة بتحريك الدعوة العامة ضد الموظف المسؤول.

وبناءً على ما سبق، نكون أمام خيارين: إما أن يطلب من الجهة الحكومية نفسها إجراء التحقيق وتطبيق العقوبة، أو أن تتم إحالتها إلى هيئة التحقيق والادعاء العام «النيابة العامة»، والتي بدورها تقوم بإحالة القضية -بعد إجراء التحقيق- إلى القضاء، خاصة في المخالفات المالية ذات الطابع الجنائي.

وهذان الخياران يتعلقان بطبيعة وأهمية المخالفة التي بالطبع تحتاج إلى معايير لتحديد الأهمية النسبية لهذه المخالفات، والتي بدورها أيضا تحتاج إلى قياس الأثر المترتب على هذه المخالفة بشكل موضوعي، وهنا تكمن المشكلة، لأن تحديد طبيعة وأهمية المخالفة

سيخضع للاجتهادات الشخصية في ظل غياب هذه المحددات وهذه المعايير، لذا تكمن المخاطر في مثل هذه القضايا في انتفاء المساءلة القانونية.

كما أن التنظيم الإداري الحالي لهيئة التحقيق والادعاء العام «النيابة العامة» يتضمن وحدة للجرائم الاقتصادية، تقوم بالتحقيق في الجرائم الاقتصادية، وهي تلك الجرائم التي تمس بخطورتها الاقتصاد الوطني، وتشكل خطرا على السياسات الاقتصادية، وتعد أعمالا يعاقب عليها النظام الجنائي المالي في المملكة، والإشكال هنا عدم تحديد دقيق لمفهوم الجرائم الاقتصادية، والتفريق بينها وبين الجرائم المالية، فهناك أيضا دوائر تحقيق في الجرائم المالية، وهي الدوائر نفسها التي تعالج جرائم المال حاليا، مما يعني وجود مخاطر التداخل في الاختصاصات بين الدوائر، إضافة إلى غموض التعامل مع قضايا الفساد المالي الموجود في الجهات الحكومية «المال العام».

وبناءً على ما سبق، من المهم أن تكون هناك نيابة للأموال العامة، تكون جزءا من النيابة العامة، تختص في جرائم الأموال العامة، وتتبع النائب العام، وتختص بالتحقيق ورفع الدعوى ومباشرتها أمام المحاكم المختصة، طبقا للأنظمة والقوانين النافذة في كل الجرائم الواقعة على المال العام، وكذلك الجرائم الماسة بمقتضيات الوظيفة الحكومية والثقة العامة، والجرائم المرتبطة بها.

كما يجب على ديوان المراقبة العامة، وكذلك الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد «نزاهة» بما لهما من دور في الكشف عن المخالفات المالية وقضايا الفساد، أن يقوما بإحالتها إلى نيابة الأموال العامة، متضمنة الوقائع الجنائية، وتحديد المسؤوليات عنها، مع حصر وتحديد الأدلة والوثائق المؤيدة لتلك الوقائع، وتحديد حجم الضرر، كما يقترح إعادة النظر في نظام ديوان المراقبة وتنظيم «نزاهة» فيما يتعلق بعلاقتهما بالقضاء بحيث يتم النص على أنه في حالة تقاعس الجهة الحكومية عن إحالة القضية إلى نيابة الأموال العامة خلال 30 يوما، فيجب على الديوان ونزاهة إحالة الموضوع مع المستندات إلى النيابة مباشرة.

فالسلطة القضائية عموما، هي وحدها التي يمكن أن تكون حجر الزاوية في هيكل الرقابة على حسن إدارة المال العام، لأنها الجهة الوحيدة المستقلة من هرمية التسلسل الوظيفي الإداري، وما يتفرع عنه من تسلط رئيس على مرؤوس.