لمدة أسبوعين متتابعين كنت في حالة تقترب من الصدمة العاطفية، بعد أن فرغت من قراءة قصة (آخر الراحلين) لمؤلفها (باغرات شينكوبا) في روايته عن انقراض شعب كامل من شعوب قفقاسيا، الممتدة بين البحر الأسود وقزوين، وهي منطقة جبال شاهقة وشعوب متعددة تدين بالإسلام، امتدادا لدولة التتار في شبه جزيرة القرم، التي تمتد كقرن من جبهة البحر الأسود، وكانت ثلاث ممالك إسلامية تم تدميرها على يد إيفان الرهيب فلم يبق منها أثر، وبنى مكانها الروس القوزاق القلعة (سيباستيول)، كما بنوا مدينة (غروزني) التي تعني المدينة القبيحة، حيث تم تدمير دولة الشيشان تدميرا.

وهي ليست المرة الأولى؛ فقد حمل ستالين بعد الحرب العالمية الثانية الشعب الشيشاني بالكامل إلى معسكرات الاعتقال في سيبريا، عقوبة لهم على تعاونهم مع النازيين، ولم يسأل نفسه لماذا يستجير الإنسان بالنار من الرمضاء؟

كان الأخ بسام حاجي بيك يسألني وهو شركسي من أحفاد من هاجر من القفقاس: أين وصلت في الرواية؟ كنت أقول له لقد وصلت في رواية الشيخ (زاورقان) إلى موضع هربه إلى أفريقيا بعد أن قتل الحاكم التركي المحلي الذي استولى على أختيه الاثنتين وبنى بهما.

وزاورقان هو آخر إنسان بقي من شعب (الوبيخ)، واللغة الشركسية لها حروفها الخاصة، وكلمة الخاء تلفظ بين الشين والكاف.

كان بسام يقول ما زال أمامك الكثير من الحزن! وكان ما قرأته كفاية! ولم يقرأ إنسان هذه القصة إلا وبكى فيها مرات ومرات، لأنها تراجيديا حقيقية لشعب كامل، وليست قصة رجل وامرأة في عاصفة حب.

وفعلا فعندما تقدمت في الرواية ـ التي لم أستطع تركها من يدي ـ كانت المأساة تتضخم، والعذاب يزداد، والشعب القفقاسي يذوي، قلت يومها لزوجتي الشركسية: سامحك الله لم يكن عندي تصور عما حدث لأجدادك! فهزت رأسها ولم تجب، مما دفعني بعدها لإحضار المصادر العلمية عن محنة الشعوب القفقاسية وحروبها المستمرة مع روسيا، على نية كتابة بحث كامل عن الموضوع، على طريقة بناء الثغرات المعرفية، منها ثورة الشيخ شامل، ومنها ثورات الشيشان المتتابعة، رأينا آخرها في التسعينات مع اغتيال جوهر دوداييف على يد المجرمين يلتسين وبريجينيف.

وحتى اليوم ما زالت قبضة الروس رازحة على رقبة هذا الشعب الصغير الشجاع النبيل، وكله بسبب الخطوط البترولية والأهمية الاستراتيجية للبلد.

وأذكر من الأخ عبد العزيز المطوع بعد أن اطلع على الكتاب أن نصح بأن يطبع الكتاب طبعة خاصة، وأنا أشجع على ذلك المقتدرين بطباعة ذخائر الفكر والروايات العالمية للجيل الحالي كي يعلم ما غاب عنه، ولقد حاولت الاتصال بمحيي الدين سليق الذي أخرج الكتاب باللغة العربية بدون جدوى، فهذا هو الكتاب أو الرواية التي يقال عنها كتاب ليس ككل كتاب، لأنه ينقش في الذاكرة خطوطا لا يمحوها الزمن، وأتمنى أن يمثل على هيئة فيلم، ولكن هوليوود مشغولة عنه بأفلام الجنس الإباحية وأفلام ضرب قتل.

ومن الكتب التي طبعت ذاكرتي بأثر عاطفي صادم كتاب (اكتشاف أميركا مسألة الآخر) لمؤلفه تزفيتان تودوروف أستاذ السوربون من أصل بلغاري، وكانت مفاجأة لي الفظائع التي رواها القس لاس كاساس عن الأحداث الرهيبة والوقائع المخيفة التي مارسها الإسبان، منها قصتان لا أنساهما، ذبح أهل قرية في كوبا ومواشيهم وهم يتأملون الجنود الإسبان بكل وداعة؛ ففتكوا بهم بدون أي مبرر بعد أن حدَّوا وجلخوا سكاكينهم بأحجار الصوان في الوادي، والمساكين أهل القرية ينظرون ولا يتوقعون الموت الزؤام، منهم رجل قص بطنه الإسباني بالخنجر الحاد فاندلقت أمعاؤه، فهو يحملها يتلوى من الألم، فيتقدم إليه المبشر الكاثوليكي يريد تعميده حتى يموت مطهرا من الآثام، فهذا ما كان يدور في بال رجل الدين عن إسعاف هذا المبقور المبطون.

ومنها تلك المرأة التي أراد الضابط الإسباني الوغد أخذها عنوة من زوجها ليغتصبها؛ فلما رفضت رموها للكلاب فمزعتها... كلها في وقائع ميدانية سجلها رجل دين ما زال يحمل بقايا ضمير.

فمثل هذه الكتب ليست كالكتب، لأن من يقرؤها يخرج منها تحت وقع مشاهد متتابعة من مواقف وشخصيات مؤثرة رسمت بأفضل من ريشة أعظم فنان.. فتبقى خالدة في الذاكرة.

إنني أنصح قرائي بلهفة أن يقرؤوا هذه الروايات.