رغم الخناق الذي امتد لعدة عقود عبر التيار الصحوي على المطربين السعوديين، بعد محاربتهم وتحريمهم أغلب الفنون، ومنها إلغاء حصص الموسيقى المدرسية، وتشويه سمعة الفنانين، ومحاربة بناء المؤسسات الفنية، والتصدي لدعمها الحكومي، إلا أن المطربين السعوديين قدموا بجهود فردية أحد أرقى أشكال الفن العربي التي شكلت ذائقة المجتمع السعودي، عبر نخبة من عباقرة الغناء والكتابة والموسيقى، ممن كانوا يستعينون غالبا بدعم المؤسسات الفنية المصرية، بل ونافسوا الغناء المصري والشامي المدعوم مؤسساتيا، والذي امتدت تجربته لأكثر من قرن مضى مقارنة بالفن السعودي الذي لم يبرز نسبيا إلا مع ازدهار الدولة قبل نحو نصف قرن.

اتجه الفن الغنائي السعودي بل والعربي عموما في العقد الأخير إلى قدر كبير من الانحطاط لأسباب منها صعود حالة (طلب الجماهير) بعد أن كان نخبوي الصناعة، ولكن لم يمنع ذلك أيضا من استمرار ظهور الأعمال الغنائية الجيدة.

لقد تميزت السعودية في منتصف القرن العشرين، خاصة في الثمانينات، بكل المعطيات التي تؤهل أي دولة للازدهار في كافة الفنون، من غناء ومسرح وسينما ورسم ورقص وأدب وشعر، غير أن أهمية العمل الجماعي والأكاديمي والمؤسساتي كانت سببا في ضعف المحتوى أو عدم ارتقائه إلى مستوى التطلعات، خاصة في الفنون التمثيلية التي تتطلب خبرات أكاديمية ومؤسساتية متنوعة.

استمر الفن التمثيلي أيضا من خلال الاجتهاد الفردي مع تعرضه المستمر للخناق، ولم يمنع ذلك من تحول مسلسل بسيط الإمكانات مثل (طاش ما طاش) إلى أحد أهم الأعمال التمثيلية المؤثرة على ثقافة ووجدان المجتمع السعودي، وكان أول عمل تمثيلي يقارب قضايا المجتمع لما قبل قنوات التواصل الاجتماعي.

ما زال التأثير مرتبطا حتى الآن وبشكل رئيس بالفنان ناصر القصبي الذي يجتهد في (سلفي) مع القائمين على

العمل بتبني القضايا الوطنية، والمشاركة في ترسيخ بعض القيم، وعلاج بعض المشكلات الاجتماعية، ولم ينافس العملين إلا اجتهادات شباب اليوتيوب.

فرغم هذه الجهود إلا أن العمل التمثيلي ما زال بدائيا وسطحيا إلى حد كبير، فالعمل الوحيد الذي تم تقديمه في (سلفي) عن تضحيات قواتنا المسلحة كان بدائيا من الناحية الفنية، وليس ذلك استنقاصا في جهود القائمين على العمل، ولكن يستحيل إبداع هذا النوع من الأعمال بأعلى معايير الجودة دون الخبرات المتقادمة والإمكانات المدعومة والتعليم الأكاديمي.

رغم بعض الأعمال الإيجابية إلا أن الكثير من الأعمال أسهمت في ترسيخ هوية السعودي «المهرج» أو «الأهبل» أو «الجاهل» أو حتى «العنصري»، وهي شخصية نمطية لا تختص بالسعوديين، إنما هي نمط ينتشر في كافة المجتمعات الإنسانية حتى في أميركا المتفوقة فنيا. وقد كان لبروز هذا النمط أسبابه، منها قيام صناعة الكوميديا السعودية على التهريج أو «الاستهبال» كطريق سريع للشهرة تتحقق حتى مع ردود الفعل السلبية التي تساعد أصحابها على الانتشار. وقد انعكست هذه الصورة حتى السينما الأميركية من خلال تقديم نجم الأوسكار «توم هانكس» لفيلم تهريجي رديء صُوّر خارج السعودية دون أن يتمكن طاقم العمل من الدخول إلى السعودية لمعرفتها كما هي، وذلك بسبب غياب التنظيم المخصص لذلك.

إحدى الحالات النادرة التي قدمت السعوديين بشكل مقبول نسبيا في السينما الأميركية كانت من خلال فيلم «المملكة»، وقد كان لالتقاء مخرج العمل بالأمير تركي الفيصل دور إيجابي في ذلك، فقدم المجتمع فعليا كضحية للإرهاب، وقدم أبناءه وهم يكافحون لمحاربة الإرهاب، وذلك بعد أن كاد سيناريو الفيلم الأولي يتجه إلى تقديم صورة سلبية أخرى. المؤسف أيضا أن معظم المشاهد صورت في أبوظبي بدلا من الرياض، وكان البطل

السعودي عربيا بدل أن يكون سعوديا، وذلك لغياب المؤسسات التي تؤهل الممثلين على الاحتراف.

أزمة ظهور المواطن السعودي بصورة بدائية أو سلبية في مختلف الوسائط الإعلامية لا تعكس الصورة الحقيقية، فالمجتمع السعودي اليوم أصبح الأرقى تعليما والأكثر حداثة في العالمين العربي والإسلامي، وقد ازدهر بالكفاءات في أغلب المجالات المدنية، حتى في بعض المجالات التي تتميز بها الدول المتقدمة، إضافة لذلك فهناك أحداث تاريخية كبرى مثل تأسيس المملكة، وتاريخ عرب الجزيرة والإسلام، وهو التاريخ الذي يتصل بالسعوديين أكثر

من غيرهم، تشكل في مجملها مواد ملهمة ومثيرة وعظيمة للفنون المسرحية والسينمائية والغنائية، بدل الاستمرار في الاستياء من تقديم أحد أعداء المملكة فيلما مسيئا وهزيلا عن الملك عبدالعزيز أنتج بهدف عدائي.

علاج هذه الأزمة في تغييب الفنون لا يمكن أن تتولاه مؤسسة واحدة مثل وزارة الإعلام، فالفن الذي يقدمه كافة أطياف المجتمع أقوى من العمل المصطنع، ومجتمعنا يملك كافة الموارد البشرية والمادية التي تؤهله لتقديم فنون بأرقى معايير الجودة، وهو ما رأيناه بوضوح في عدة فنون قائمة على الجهود الفردية، مثل الفن التشكيلي الذي نافس فيه الفنانون السعوديون الأفراد أرقى الأعمال التشكيلية في العالم.

تلعب الفنون دورا حاسما في تشكيل هوية المجتمع، ولو نظرنا إلى تجربة السينما المصرية فقد كان محتواها أجمل وأفضل في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي مقارنة بالعصر الحالي، خاصة لما بعد نكسة 67 الذي اتجه فيه صناع السينما إلى تقديم وترسيخ الشخصية اليائسة أو المنحرفة أو المدمنة على الخمر والحشيش، بل وتحول الفاشلين دراسيا إلى أبطال، وذلك مع جملة أعمال ألقت بأثرها في التغيير السلبي للسلوك عبر التقليد الاجتماعي، فهذا التقليد يلعب دورا مصيريا في التأثير على أي مجتمع إنساني.

سوف يسهم بناء منظومة فنية راقية ومتكاملة ومدعومة مؤسساتيا في تشكيل هوية المجتمع، وترسيخ القيم المرغوبة، وفي تطوير وتصدير الثقافة السعودية للعالمين العربي والإسلامي، وزيادة نفوذها الثقافي الذي يجب أن يليق بنفوذها السياسي والاقتصادي والديني، وسوف يسهم أيضا في تعزيز الحراك التقدمي الداخلي ودفعه إلى الأمام، والقضاء على الأكاذيب السائدة التي يروجها الآخرون، إما عداوة أو جهلا أو تقصيرا منا، ولنقدم للعالم صورة إيجابية تساعد فعليا على تحقيق الهدف الريادي الذي تتبناه الدولة ويتجه له المجتمع.