كثيرا ما تتم مناقشة موضوع فلا يقتنع كل واحد من الأطراف بوجهة نظر الآخر، ومن النادر أن يتفق كل طرف على وجهة النظر المخالفة لوجهة نظره وقناعاته، فيختتم النقاش بعبارة «دعنا نتفق على عدم التوافق».!
ماذا لو كان الخلاف في المسلمات التي اتفق عليها المجتمع أو القناعات التي يؤمن بها، هل سيتفق المجتمع على عدم التوافق أم أن في هذه الحال لن يكون هناك اتفاق، ولا اتفاق على عدم التوافق.
عندما تغرس الأفكار غرسا في مجتمع فإن ذاك المجتمع من الصعب أن ينسلخ منها، وقد ينسلخ بعض أفراد المجتمع منها، فيبدأ الخلاف الذي ظاهره وباطنه عدم التوافق، ورفض الرأي الآخر، وعدم قبوله حتى لو سلمنا بأن المخالف لمجتمعه ككل موضوعي في طرحه، منطقي في كلامه ملتزم بثقافة الحوار.
إن بعض المجتمعات وضعت خطوطا حمراء، وأوهمت الناس بها، فلم تتغير تلك الشعوب للأفضل، وأصبحت تلك الخطوط تعيق من مواكبتها للعالم المتحضر في شتى مجالات الحياة، حتى إن تلك المجتمعات لم تستطع الانفكاك عن أمجاد الماضي، وتطمح للعودة إلى زمانه، على الرغم من أن كثيرا من المجتمعات المتحضرة استطاعت أن تنفك عن الماضي، وخلقت مبادئ، وقناعات، وأفكارا تخالف ما جاء في الزمن القديم.
إن من أهم عوامل تطور المجتمعات مناقشة الأفكار والآراء دون حواجز أو عوائق، ذلك أن الأفكار والآراء من طبيعتها أنها تتغير مع اختلاف الزمان، ويمكن أن يكون الرأي أو الفكرة محاربة في زمن، ويتم الأخذ بها بعد ذلك بسبب انكشاف صحتها على الرغم من كونها فكرة تخالف المعتقد السائد في ذلك الوقت أو المجتمع بأكمله وما يحمله من قناعات، والأمثلة في ذلك كثيرة.
حتى على صعيد البحث العلمي والمعرفي، فإن من أهم أساسياته الطرح الحر المحايد دون أن يكون هناك أي تأثيرات خارجية مثل العواقب السياسية، أو الاجتماعية، أو الدينية، وإلا فإن هذا البحث لن يكون مبنيا على أسس أكاديمية صحيحة، وسيفقد الحيادية في الطرح للوصول إلى الحقيقة وفق الأساليب البحثية أو العلمية المعتبرة، وكم من نظرية علمية خالفت القناعات السائدة، وآراء العلماء في زمن ما وثبت قطعيا صحتها بعد ذلك.
لماذا لا نتقبل الخلاف، ولماذا لا نتأدب عند الاختلاف، ولماذا لا نترك القذف والتجريح، والتكفير، والاستنقاص، والعنصرية، والطائفية، ونحاور بطريقة موضوعية، ونناقش الآراء بكل تجرد، وحيادية؟
إننا بحاجة لتعزيز ونشر ثقافة الحوار حتى يكون الحوار موضوعيا نابعا ممن يتقبلون المخالف ويتعاملون معه من منطلق إنساني، ويبتعدون كل البعد عن التصنيف أو الإقصاء.
إن من أصعب العقبات التي قد تواجهنا في نشر ثقافة الحوار هي وجود عينة ممن يرفض الحوار أساسا، ولا يمكن أن يتفق مع المخالف على عدم التوافق.
إن من الواجب علينا أيضا مواكبة المجتمعات المتحضرة، والانسلاخ عن الآراء والأفكار التي تعيق أو تؤخر من تقدمنا، حتى لو لم نكن مقتنعين من وجهة نظر المخالف، أو غير مؤمنين بأفكاره، فلنتذكر أن كثيرا من القناعات التي يؤمن بها المجتمع قد تكون أمورا تحتاج منا إلى إعادة فتح باب الحوار فيها حتى تتبين لنا صحتها، وأن لا نقفل باب الحوار بحجة أن هذه من المسلمات التي اتفق عليها المجتمع، أو القناعات التي لا يمكن مناقشتها بشرط أن نلتزم بثقافة الحوار.