يعتقد من يزعمون أنهم يمتلكون ناصية الحكمة والحنكة في عالم السياسة في الشرق الأوسط، بأنه عندما تتحول إيران إلى سبب من أسباب الخلاف العربي – العربي، فإن ذلك يصب أوتوماتيكيا في خدمة إسرائيل، ويشكل تجسيدا لأبرز هدف من أهداف «مبدأ كارتر» الشهير، المتمثل في استبدال الصراع العربي-الإسرائيلي بصراع عربي-إيراني.

وأن «أسرلة» إيران و«شيطنتها» يشكل انقلابا في منظومة الأمن القومي العربي.

لكن الصراعات «في» و«على» الشرق الأوسط تستحضر التاريخ بأساطيره وحقائقه، والدين بمذاهبه وطوائفه، والقومية برفعتها تارة وتارة أخرى بدونية متطرفيها العنصريين أو الفاشيين.

وثمة خلط بين معنى ودلالات مصطلحي: إيران وفارس، وهما اسمان استُعملا للدلالة على قُطر واحد، ولكنهما ليسا مترادفين تماما.

فلما هاجرت الأقوام الآرية من موطنها الأصلي -جنوبي بحر الآرال- إلى الهضبة المرتفعة الواقعة أسفل بحر قزوين، سمّوا الموطن الجديد «إيران» ومعناها «موطن الآريين».

وفي نموذج العلاقات العربية- الإيرانية المتوترة منذ بداية القرن الخامس عشر الميلادي، ومرورا بتولي آل بهلوي الحكم في إيران، مطلع القرن العشرين، لم تتغير النظرة إلى العرب أو العروبة، فبقي الخليج العربي في معتقدهم فارسيا، والبحرين فارسية، إضافة إلى الجزر الإماراتية «أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى»، هذا عدا عن عدم إيمانهم بمبدأ التعايش مع محيطهم العربي، وإيمانهم بأن العرب على شواطئ الخليج ليست لهم أية حقوق فيه، وأنهم -أي العرب- هم مجرد «برابرة» دمروا الحضارة الفارسية.

هذه النظرة هي جزء لا يتجزأ من الثقافة القومية الفارسية المتوارثة منذ آلاف السنين، وقد تم التعبير عنها بأفضل وأعمق تعبير في كتاب «الشاهنامة» للفردوسي أبوالقاسم منصور الذي ألفه عام 1010 ميلادي، وهو الكتاب الذي يصفه بعض المفكرين والمثقفين في العالم بأنه «قرآن الفرس»، ومحتوى هذا الكتاب هو عبارة عن أشعار وقصص تتغنى بقباحة العرب وتخلفهم وطرق احتقارهم.

ومنذ نحو نصف قرن من الزمن، تتداخل العوامل التاريخية والدينية- الطائفية والقومية، وتتمظهر في أدوات القوة الناعمة، من شعارات وخرافات وتزييف للحقائق، وتسطيح أو إفراغ المفردات والمصطلحات من مضامينها ومقاصدها الرئيسة، بعد خلطها في مزيج البراجماتية السياسية.

واستنادا إلى رزمة مخاوف استحضرت معركتي: ذي قار والقادسية في حرب الخليج الأولى بنسختها العراقية- الإيرانية. وتم وضع المشروع الإيراني في منزلة مشروع استيطاني أخطر من المشروع الاستيطاني الإسرائيلي. واعتبار إيران اليوم أخطر على مستقبل العرب من إسرائيل، فإسرائيل ليس لديها من يؤيدها في العالم العربي، إنما في حالة إيران فلدينا لوبي إيراني مسيطر يبرر أفعالها.

وتتجسد نظرية «أسرلة» أو «صهينة» إيران، بالقول إن إيران لا تختلف عن إسرائيل في عدوانها وتوسعيتها واحتلالها أراضي العرب، إذ تحتل إيران الجزر الإماراتية الثلاث «أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى»، إضافة إلى احتلالها جنوب لبنان، والعراق، وأجزاء من سورية. بينما تحتل إسرائيل الجولان وبعض الضفة الغربية وبعض غزة.

وأنه ليس هناك وجود لاحتلال محمود، واحتلال آخر مذموم، فضلا عن صعوبة واستحالة التمييز بين أرض عربية مقدسة وأراض عربية مدنسة، وأنه مقابل تناسي بعض الإسرائيليين حلم «إسرائيل الكبرى» وشعار «أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل»، لا يتورع بعض فقهاء تصدير الثورة عن طرح التمدد الإيراني غربا نحو شواطىء البحر الأبيض المتوسط، والتغني بنفوذ واسع في عدد من العواصم العربية الرئيسة، إضافة إلى ما ذكره، مرات عدة، مسؤولون إيرانيون ومنهم النائب الإيراني حسين علي شهرياري، بأن «البحرين كانت المحافظة الرابعة عشرة في إيران حتى عام 1971، ولكن للأسف وبسبب خيانة الشاه والقرار السيئ الصيت لمجلس الشورى آنذاك، فإن البحرين انفصلت عن إيران، وإذا كان من المفترض حدوث أمر ما في البحرين، فإن البحرين من حق إيران وليس السعودية».

وأعلن مستشار الرئيس الإيراني للشؤون الدينية والأقليات علي يونسي، أن إيران إمبراطورية عاصمتها بغداد، كما تحدث النائب البرلماني أسدي عن سيطرة إيران على 4 عواصم عربية، هي: بغداد وبيروت وصنعاء ودمشق. وهناك تصريح لمساعد وزير الخارجية الإيراني، بأن إيران تعيش على 30% من حدودها التاريخية.

ويشير كل من التوسع الجغرافي والنفوذ السياسي، الإيرانيَّيْن، إلى ملامح عملية جادة ترمي إلى إحياء الإمبراطورية الفارسية وتجسيد حلم قديم، عبر استخدام أدوات وأسلحة وشعارات طائفية ومذهبية في مقدمها: التشيع وحماية المراقد المقدسة لآل البيت. وحديث فقهاء الثورة الإسلامية عن حقوق عالمية للإسلام ونصرة للمستضعفين في العالم، هو إعلان عن عدم التقيد بحدود إيران الجغرافية.

ويتصف الحلم الإمبراطوري القومي الإيراني بالإصرار على الاستمرار، لكن مع اختلاف الآليات والأساليب، فالحلم القومي الإيراني واحد لم يتغير، سواء كان زعيمه معتمرا لتاج كورش أم عمامة آل البيت.

وسبق لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، في مقالة نشرت في صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، محاولة التغطية على الحلم الإمبراطوري الإيراني، بالزعم أن السعودية اخترعت ما أسماه «الإيرانوفوبيا» ورعت خطاب الكراهية الروتيني ليس فقط ضد إيران بل ضد كل المسلمين الشيعة. بينما «الأولوية في السياسة الخارجية الإيرانية، هي إرساء الصداقة مع جيراننا، والسلام والاستقرار في المنطقة، والتعاون العالمي، خصوصا في محاربة التطرف»!.

لقد وفرت سياسات إيران التوسعية منذ «ثورة الخميني» وإلى اليوم، استنزافا للجهد العربي الموجه للتصدي لإسرائيل والضغط عليها، لتقديم تنازلات سياسية في عملية السلام على أرضية مبدأ «الأرض مقابل السلام»، أو «مبدأ حل الدولتين»، وكانت الحرب الإيرانية على العراق لـ8 سنوات أكبر استنزاف للحالة العربية منذ نهاية الحرب الصليبية وانتصار صلاح الدين الأيوبي، إذ كان الخميني يرى أن تحرير فلسطين يجب أن يمر من بغداد، أي بمعنى احتلال العراق.

ومهما تصاعدت درجات الإيرانوفوبيا، فإنها لا تقود أنصارها نحو تجرع سموم تحالف الضرورة مع إسرائيل، تطبيقا لمبدأ براجماتي يقول: «عدو عدوي صديقي»، أو عملا باعتقاد يفيد أن «إسرائيل هي عدو عاقل وإيران صديق جاهل، وعدو عاقل قد يكون أفضل من صديق جاهل». بل نحو إجراء مفاضلة بين عدوّين، استنادا إلى درجة خطورة كل منهما، تتيح وضع الإستراتيجيات والتكتيكات اللازمة لمواجهتهما في آن معا، لأنهما قد يعقدان تحالفات سرية، ويتبادلان خدمة بعضهما بعضا بأشكال مباشرة وغير مباشرة، فالقاسم المشترك بين مشروعهما، هو تقويض منظومة الأمن القومي العربي.