هل شعرت يوما حين تقرأ جزءا من التاريخ، أن هناك شيئا يعجز عن المرور من حنجرة الواقعية، ويأبى أن ينزلق إلى مستودع الاقتناع، حتى لو شربت فوقه سطلا من الماء.

ألم يساورك بعض الشكوك حين تقرأ بعض الأحاديث النبوية، بأنها تتعارض مع نص صريح في القرآن، فتشعر بأن هناك خطأ ما. ألم تشعر حين تسمع أحداثا عالمية، بأنها أصبحت تتداول بنهايات مختلفة كل مرة.

لكل منظومة تعيش على الأرض، منهجٌ متخصص في الكذب الذي يتعرف عليه الإنسان منذ نعومة أظافره -للمرة الأولى- في محيط الأسرة، فيكبر معه ويتفنن في تطويره إلى أن يبتكر منه منهجا خاصا، وتتفرع منه مناهج أخرى تخدمه في كل محطة من محطات حياته.

ويتولى الوالدان داخل بعض الأسر عملية تعليم الطفل ألوان وفن الكذب، دون أن يشعروا بخطورة ما يفعلون، بل في كثير من الأحيان، حين تلفت نظرهم إلى ذلك يدّعون أن كذبهم يعد من «الكذب النبيل»، مثل الذي أطلقه أفلاطون، للتبرير بأنه كذب مفيد، ويخدم الموقف في حالة التربية والترغيب والعقاب.

فحين يفتح الطفل عينيه، ويسمع والديه يكذبان على أقاربهما وأصدقائهما في بعض المناسبات والمحادثات الهاتفية، سيتملكه شعور في البداية بأن والديه صادقان وغريبا الأطوار، ثم ستحدث له ازدواجية في التعامل معهما، ويعتقد بأن لكل واحد منهما أكثر من شخصية.

فحين تطلب الأم من طفلها أن يتعذر للمتصل بأنها خارج المنزل، لتتملص من إحدى المكالمات -على سبيل المثال- سيعتاد في المرات القادمة اختراعَ أعذار أكثر إقناعا لها. وحين يطرق زائر غير مرغوب فيه باب بيتهم ويطلب والده، أن يدّعي بأنه نائم، أو مسافر، وهو ليس كذلك. سيتصدر ابنه للكذب في كل مرة يتكرر الموقف.

لذلك، تعد الأسرة هي المدرسة الأولى التي تعلم الإنسان أبجديات الكذب، فيتعرف على مذاق تلك النشوة التي يتركها الكذب على لسانه.

والمشكلة التي يتغافل عنها الكبار حين يكبر الصغير، أنه يكون قد استساغ الكذب، بعد أن اختبر كيف خلّص والديه من عدة مواقف صعبة، وأزال من أمامهما بعض العقبات، فمن المؤكد سينأى به هو الآخر عن تحمل المسؤولية، فيجربه أولا على والديه.

والمثير في الأمر، حين يبدأ الصغير بالكذب على والديه، يغضبان ويثوران ويعدّانه خطأ عظيما لا يقبل العفو ولا المغفرة، دون أن يدركا أن هذا كان نتاج تربيتهما، وتقديرهما الخاطئ بأن الصغار حين يكبرون سينسون.

ومن واقع تجارب كثيرة حولنا، تبين لنا أن ذاكرة الصغير مخزن من المفردات والتجارب والمشاعر التي يتعرض لها في الصغر، وكثير منهم لا ينسون ما يفعله أو يقوله والديهم بسهولة، بل يتأثرون بهم كثيرا في السنوات الأولى من العمر.

وإذا تخيلنا أن هناك كثيرا من الأسر حول العالم، يربون أبناءهم على الكذب، وينشئونهم على خداع الآخرين، فهل لك أن تتخيل مدارس الكذب التي تتوزع على الأرض، وتُخرّج الآلاف من الأفراد الذين يملؤونها بأكاذيبهم، وعلينا مواجهتهم والتعامل معهم في النهاية.

مثل القادة الذين غيروا مجرى التاريخ والأحداث، باختلاق منهج متخصص أسموه «الكذب الإستراتيجي» الذي يمارسه بعض قادة ورؤساء الدول، بكل ثقة دون تراجع، على الرغم من وجود عشرات الدول والشعوب التي تعرف الحقيقة.

فحين تواجههم بكذبهم، يبررون بأنه مناورات سياسية حميدة، مطلوبة في العلاقات الدولية، لا سيما وقت اندلاع الأزمات. فحين يفشل الكذب الإستراتيجي ويحاصر صاحبه، يتبعه عادة «بكذب أحمق»، وليد اللحظة وغير متقن، يُسرد بشكل ساذج وضعيف، قد يُعرض بعض القادة للاستهجان والسخرية والخطر، فيواجهون بغضب من الجميع، إضافة إلى فقدانهم الثقة الدولية والمحلية، مثل ما حدث في حالة القذافي.

ولا يتخرّج في مدرسة الكذب الإنسان غير المثقف، أو الجاهل فقط -كما كنا نتوهم- بل أعتى السياسيين الماكرين، والمديرين التنفيذيين، وكل من لا يخطر على البال، بعد أن حصلوا على شهادات عليا في الكذب المركب الذي يبنون فوقه أكاذيب وأكاذيب يصدقونها بمرض، ثم يبدؤون في الدفاع عنها كحقيقة لا تقبل المساومة.

ولم أجد منصة تأسس عليها منهج «الكذب الشخصي والأناني» بكل أريحية، مثل منصة ما قبل الزواج والعمل، فمرحلة ما قبل الزواج، من أكثر المراحل التي يستخدم فيها الطرفان «الكذب الشخصي والأناني»، فيلقون ما يشاؤون من وعود وقيم وشعارات كاذبة، لا يمكن أن تشعر من هول اتقانها بأنها غير حقيقية، وما إن يتم الزواج حتى تتكشف الحقائق من اليوم الأول.

أما مجال العمل، فيعدّ المنصة الضخمة الثانية التي تحتضن الكذب الشخصي والأناني، وتعد المنصة الرسمية التي يمارس فيها المسؤول والمدير الكذب بشكل يومي ومستمر، وعلى الموظف أن يبتكر منهجا خاصا به ليصل إلى ما يصبو إليه من مكانة أو منصب.

فمن أهم أدوات نجاح أي عمل، الاستمرارية، والاستمرارية في ممارسة الكذب، أصبحت متطلبا يرضي كثيرا أصحاب العمل، في زمن أصبح يُعاقَب فيه الصادق، ويكافَأ فيه الكاذب على كذبه.