في مطالع هذا الشهر، احتفل الصهاينة بمرور خمسين عاما على انتصارهم في عدوانهم على جيوش مصر وسورية والأردن، في الخامس من يونيو 1967. وقد ناقشنا تداعيات هذه الهزيمة، على العرب في حديث سابق، ولن نتعرض لذلك في سياق هذا الحديث. ما نهدف له هو قراءة سياسة الحكومات «الإسرائيلية» المتعاقبة من مشاريع التسوية. وسوف نستعين في هذا السياق، بالمقالة المدوية للكاتب والمحلل السياسي «الإسرائيلي» الشهير، جدعون ليفي، التي نشرها في موقع هارتس الإسرائيلي. وقام بترجمة المقال، عن اللغة العبرية الأستاذ سعد عبدالعزيز.
لقد وصف جدعون الكيان الغاصب، بالدولة المجرمة، وانتقد الاحتلال للأراضي الفلسطينية الذي استمر نصف قرن من الزمن، وما تبعه من أورام استيطانية وحروب دموية.
إن احتلال الصهاينة عام 1967 لشبه جزيرة سيناء والقدس الشرقية والضفة الغربية ومرتفعات الجولان، قام على الكذب والخداع. ولولا ذلك لما وقع الاحتلال أصلا. إن أكاذيب الاحتلال تكفي لجعل المرء يشمئز منه ويمقته، من دون الحاجة لأن يرى بقية فظائعه.
كانت الفرية الأولى للاحتلال، من وجهة نظر ليفي، هي تسمية الأراضي التي احتلت في عدوان 1967، بالأراضي المحتجزة، بدلا من الاعتراف بواقع احتلالهم للأراضي العربية. أما أكبر الأكاذيب وأكثرها تأثيرا على الإطلاق، فكانت القول بأن «الاحتلال أمر طارئ، وأن حكومة ليفي أشكول، تعتزم «إخلاء الأراضي المحتجزة»، التي أشير إلى أنها مجرد أوراق ضغط للتوصل إلى تسوية سلمية مع العرب».
إن هذه الأكذوبة بالتحديد -بحسب «ليفي»- هي التي مكنت إسرائيل من تخدير العالم وخداعه، ومكنت الصهاينة من الاحتفال بالذكرى الـ50 لاحتلال الأراضي العربية، ورفض التسليم بالحقوق الفلسطينية.
إن الكيان الصهيوني هو مشروع حرب، ولذلك فإن من الوهم التسليم بإمكانية اعترافه بحق الفلسطينيين في الاستقلال وبناء دولتهم فوق ترابهم الوطني. وليست ادعاءاته المتكررة، بأن احتفاظه بالأراضي العربية، هو تلبية لاحتياجاته الأمنية، سوى كذبة وقحة أخرى، فهذا الكيان بما يمتلكه من ترسانة عسكرية هائلة، ورؤوس نووية ودعم أميركي وغربي فاضح، في ظل الواقع العربي المتشظي، يجعل ادعاءاته معكوسة. فالعرب الآن هم الذين يطالبون بالأمن. ولا يستقيم الأمن لأحد، حين يختل ميزان العدل وتصادر الحقوق.
لقد كانت قضية فلسطين ولا تزال هي جوهر الصراع بين العرب والصهاينة. ذلك يعني أن أي حلول جزئية وتسويات بين الحكومات العربية التي احتل الصهاينة أجزاء منها، لن ينهي حالة الصراع بين العرب والصهاينة، لأن القضية الفلسطينية هي أساس الصراع. وما دام الصهاينة يرفضون تنفيذ الاتفاقيات والمعاهدات التي جرى توقيعها مع منظمة التحرير الفلسطينية فإن ذلك يعني في أبسط أبجدياته استمرار الصراع بينهم وبين العرب جميعا.
بالنسبة للصهاينة، لم يعن توقيع تلك الاتفاقيات بينهم وبين الفلسطينيين، من ضمنها اتفاقية أوسلو، سوى كسب مزيد من الوقت للاستمرار في الاحتلال. وللأسف فإن العالم بأسره شارك في تنفيذ هذا المخطط البشع، ولا يزال يواصل ذلك حتى الآن، عن طريق إجراء نقاشات، وطرح مبادرات سلام كثيرة لا تكاد تختلف عن بعضها، والدعوة لجولات مفاوضات، وعقد قمم إقليمية ودولية، ورحلات مكوكية.
لقد استثمر الصهاينة انشغال العالم والعرب والفلسطينيين جميعا بقضايا التسوية، لتنفيذ مشاريعهم التوسعية، ومصادرة الأراضي الفلسطينية، وبناء المستوطنات، والجدران العازلة، والمعابر، التي اقتطعت جميعا من الأراضي المحتلة التي من المفترض أن تقام عليها الدولة الفلسطينية المرتقبة. وتجاوزت نسبة الأراضي المصادرة من القدس الشرقية والضفة الغربية والقطاع ما يزيد على 52% من تلك الأراضي، حيث لم يتبق للسلطة الفلسطينية ما تتفاوض عليه.
وأكبر دليل على صحة هذه القراءة، أن اتفاقية أوسلو تضمنت في ملحقاتها ما يؤكد أن المرحلة الانتقالية لن تتجاوز الخمس سنوات، بعدها يتم الدخول في المرحلة النهائية، حيث تتم معالجة قضية اللاجئين الفلسطينيين ووضع مدينة القدس، التي يتمسك الفلسطينيون بكونها العاصمة الأبدية لدولتهم المستقلة المرتقبة.
إن الإدارات الأميركية المتعاقبة التي شجبت بناء المستوطنات، والأوروبيين الذين غضبوا من ذلك، والجمعية العامة للأمم المتحدة التي نادت بوقف البناء، ومجلس الأمن الذي قرر أن المستوطنات غير شرعية، كل هؤلاء لم يتمكنوا من فعل أي شيء لوقف الاستيطان، أو إجبار الحكومات الإسرائيلية على إنهاء الاحتلال.
إن على العالم بأسره أن يقف في وجه وحشية هذا الكيان، فقد تكشف زيف ادعاءاته المستمرة، بأن كيانه هو الدولة الديمقراطية الوحيدة، في جوار من أنظمة الاستبداد. كما تكشف كذبه بأن جيشه يستند على دعائم أخلاقية من الطراز الأول، بينما يقوم ذات صيف بقتل أكثر من 500 طفل و250 امرأة. ولن يكون هناك من سبيل لإنهاء ممارساته الوحشية سوى بانتهاء الاحتلال لفلسطين.
لقد تحمل الفلسطينيون كثيرا وطال صبرهم. وبالنسبة للقادة العرب فقد أعلنوا منذ أكثر من أربعة عقود جنوحهم للتسويات السلمية، من غير طائل. وخلال السنوات الست المنصرمة انشغل العرب بحروب أهلية، وصراعات أخذت مكانها تحت مسمى الثورات العربية تارة، والربيع العربي تارة أخرى، وانتهى الأمر كله بخريف غضب استثمر العدو الصهيوني نتائجه. ولن يكون بالمقدور تأكيد حضور الأمة، ونهضتها إلا بعودة الروح للمواثيق والمعاهدات التي وقعها القادة العرب فيما بينهم، وإعادة الروح لمفهوم التضامن بين العرب، على قاعدة مواجهتهم جميعا للتحديات والمخاطر التي تحدق بالأمة.
عندها فقط يمكن الحديث عن تحرير فلسطين، وعندها أيضا نقترب من موسم الحصاد.