قبل عدة أيام أدرجني الصديق طلال العجمي في حوار تويتري حول هذه الظاهرة: عادة ما ينادي السعوديون غيرهم من الأفراد ممن لا يعرفون أسماءهم باسم «محمد». هذا النداء يأخذ صورا منها: يا محمد، محمد تعال... الخ. أطروحة الصديق طلال كانت تستهدف تفسير اختيار هذا الاسم تحديدا لمناداة الأغراب. اسم محمد يحيل على شخصية دينية مقدسة في وجدان السعوديين، فما سر اختيار هذا الاسم؟ واحدة من الأطروحات لتفسير هذا الأمر والتي قدمها الصديق طلال أن هذه التسمية تشير إلى لطافة السعوديين، وأنها علامة على بداية جيدة للتواصل. سأحاول تدوين تفاعلي مع الصديق طلال هنا بدلا من تويتر كسبا لمساحة أكبر واستجابة لقرار اتخذته بداية هذا الصيف وهو «صيفية بلا وسائل تواصل اجتماعي». سأحاول في البداية تسجيل بعض الملاحظات على هذه الظاهرة قبل الانطلاق في تحليلها.

تعليق الأخ طلال كان أصلا تعليقا على الأستاذة بيان البجادي التي روت حكاية لها مع أحد الموظفين في أحد المكتبات الكبار عندما نادته باسم محمد فرد عليها أنه لم يضع البطاقة التي تحمل اسمه على صدره لكي يناديه الناس باسم آخر غير اسمه. بهذا الشكل نحن هنا أمام حالتين: الحالة الأولى شخص ينزعج من مناداته باسم غير اسمه حتى ولو كان ذلك الاسم «محمدا». في المقابل لدينا حالة أخرى وهي أن الذي أطلق التسمية استخدم اسما غاليا عليه، وهذا تعبير عن الاحترام والتقدير والرغبة في بداية تواصل جميلة. سأحاول فيما يلي التأمل في الحالتين.

المشهد الأول يعبر عن رغبة أصيلة عند غالب البشر وهي أن يناديهم الآخرون بأسمائهم الخاصة. الاسم العلم يعمل كمحدد لهوية المسمى بذاته «دون حاجة لقرينة خارجة عن لفظه». الاسم الفردي هنا يعمل كمحدد صلب

 «Rigid Designator» بمعنى أنه يحدد ذات المسمى بغض النظر عن اختلاف الظروف، بل في كل العوامل الممكنة ميتافيزيقيا. بهذا الشكل فإن تسمية الإنسان باسمه يعني هذا التحديد الدقيق والفرادة الخاصة التي لها

بالتأكيد ارتباط بشعور الإنسان بالتقدير والاحترام. الإنسان هنا حريص على أنه يراه الآخرون بفرادته، بمكوناته الخاصة وليس فقط كعينة من مجموعة أكبر. الشخصيات التي تعمل في المجال العام تتعلم مبكرا أهمية مناداة الآخرين بأسمائهم. هذه المناداة الخاصة تشير إلى علاقة بين الشخصين وكأن كل واحد منهما يقول للآخر: أعرفك بشكل شخصي ولست بالنسبة لي مجرد شخصية عابرة. المعلمون والمعلمات كذلك يعلمون مدى تأثير مناداة الطلاب بأسمائهم على تعميق العلاقة بينهم وبين المعلم. بهذا نفهم انزعاج الإنسان من مناداته باسم غير اسمه باعتباره تجاهلا لفرديته.

يلجأ الناس أحيانا لطرق أخرى في المناداة أقل إشكالا مثل: سيد، أستاذ وهي أوصاف تحيل بطبعها على عدد كبير من الأشخاص. في هذه الحالة الواحد منا يقول للمنادى: أنا لا أعرفك ولذا سأستخدم وصفا عاما سيشملك بالتأكيد، وقد يعبر عن الاحترام والتقدير. مشكلة استخدام اسم العلم بدلا من الوصف أنه يفتح احتمال فرض هوية خارجية على الآخر، وكأننا نملك حق تسميتهم. حق التسمية دقيق جدا ومرتبط بالكرامة بشكل مهم. الأصل أن يسمي الإنسان نفسه أو أن يسميه والداه وليس للآخرين إلا قبول التسمية واستعمالها. تسمية الآخر تحتوي على ادعاء الوصاية عليه.

الحالة الثانية من طرف الشخص مطلق اسم «محمد» كما عبر عنها الصديق طلال وهي أن اختيار هذا الاسم المحترم جدا في ضمير صاحب التسمية، يعبر عن لطافة ورغبة في بداية تواصل جيدة. بالتأكيد أن استخدام اسم يحيل على شخصية لها مكانة عظيمة، له دلالة إيجابية من ناحية المبدأ مقارنة باستخدام اسم يحيل على شخصية مكروهة أو محتقرة، لكن من المهم هنا التأكد تحديدا من «قصد» صاحب التسمية عند استخدام كلمة محمد. هنا لا بد من التحول إلى ظاهرتين «Phenomenologists» لمعرفة مقصد المتحدث. لا يكفي لمعرفة قصد صاحب التسمية أن نعرف معنى الاسم «محمد» ودلالته في الخارج، بل تحديدا في أفق المتحدث ذاته. بمعنى آخر نتساءل: هل كان استخدام اسم «محمد» استحضارا لقداسة الاسم في ذهن المتحدث، أم أن اسم محمد أصبح على مستوى عالٍ من الانتشار والشهرة، وبالتالي قد يتحول في قصد المتحدث إلى استخدام اسم متداول ومنتشر أكثر من كونه إحالة على شخص النبي الكريم. هذا الاحتمال كذلك يذكرني باستخدام وصف «صديق» المتداول كثيرا مع العمال، خصوصا من الدول الآسيوية. ماذا يقصد تحديدا المتحدث حين ينادي الآخر بـ«صديق»؟ هل يقصد «يا صديقي؟» أم يقصد «أنت يا من عرفت بمناداة الآخرين بصديق» (إشارة إلى تداول العمال لهذه الكلمة كثيرا)؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج لبحث إمبيريقي من خلال محاورة وملاحظة عينة معينة لمعرفة ماذا تقصد فعلا عند استخدام هذه العبارات.

أتمنى أن يستمر هذا النقاش حول ما يمكن تسميته بـ«أخلاق التسمية»، وهو مبحث مهم جدا باعتباره يشير إلى واحدة من مؤشرات العلاقة بين الذات والآخر، مؤشر التسمية. التسمية تعكس داخلها علاقات القوى والسلطة، وقد تعبر عن الهيمنة والسيطرة، وقد تعبر عن الضيافة والترحيب. الأكيد أن عدم الاهتمام بقيمة التسمية علامة على انغلاق الذات، وعدم حضور الآخر فيها إلا للاستعمال والاستخدام. وكل عيد وأنتم أجمل وأسعد.