قليلة هي الدراسات الجادة التي تُعنى بدراسة اتجاهات الرأي العام العربي واستشراف طبيعة مزاج الشارع العربي وموقفه من قضايا ساخنة تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر بحاضره ومستقبله القريب أو البعيد نسبيا. وتكتفي غالبية استطلاعات الرأي العام السريعة بتقليص مفهوم الرأي العام ووضعه في منزلة الجمهور الذي يشجع فريقا رياضيا معينا أو يصفق لفنان فائز في مسابقة غنائية، غاضا الطرف عن المؤهلات الحقيقية المنشودة ناهيك عن رسالة الفن في تطوير المجتمع. فضلا عن تعويم ثنائيات «مع – ضد» و«أبيض وأسود». وتسويق معادلات انتهازية منها: «عدو عدوي هو صديقي» و«صديق صديقي لا بد أن يكون صديقي».
ولعل الحصيلة الرئيسية لاستطلاعات الرأي العام السائدة في عالم السياسة العربية تتمثل في تأبيد وتكريس نمط تفكير خرافي بسيط مُصاب بلوثة الانحياز الأعمى، ولا يدرك معطيات العالم الراهن وتعقيداته. فخلال عقود طويلة من الزمن، ارتبط انتشار التفكير الخرافي بتوسع خطاب المؤامرة الذي كان من مفرداته ترويج خرافة «بروتوكولات حكماء صهيون» وخرافة «الماسونية» وقوتها الخفية، وفوبيا المخططات التقسيمية التفتيتية ممثلة في خريطة «سايكس - بيكو» وخرائط ومفاهيم «الشرق الأوسط الجديد»، و«الشرق الأوسط الكبير»، و«خرائط الدم» التي رسمها المؤرخ الأميركي برنارد لويس كترجمة جديدة لمبدأ «فرق تسد» الشهير ولرؤية زيبغينينو بريجنسكي مستشار الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر للأمن القومي، التي صاغها في كتابه الشهير «بين عصرين» الذي صدر في سبعينات القرن الماضي، وتتمثل في الدعوة إلى إعادة تشكيل خريطة العالم العربي وصنع شرق أوسط مكون من جماعات عرقية ودينية مختلفة، تتحول إلى «كانتونات» عرقية وطائفية يجمعها إطار إقليمي «كونفيدرالي».
وقد ركز لويس على منطقة شرق الخليج العربي (إيران وأفغانستان وباكستان) وكيفية تقسيمها. واشتملت خطته على إشعال تسع حروب في المنطقة، وعاشرتها حرب البلقان في أوروبا. وأشار إلى دولتين فقط ينبغي الحفاظ على استقرارهما وقوتهما والاعتماد عليهما: إسرائيل وتركيا. بينما يـجب إلغاء الكويت وقطر والبحرين وسلطنة عمان واليمن والإمارات العربية من الخريطة، ومحو وجودها الدستوري بحيث تتضمن شبه الجزيرة والخليج ثلاث دويلات فقط هي: دويلة الأحساء الشيعية وتضم: الكويت، والإمارات، وقطر، وعمان، والبحرين ودويلة نجد السنية ودويلة الحجاز السنية.
تلك الخرائط الجبوبوليتيكية هي تعبير عن استراتيجيات تضعها لنفسها الدول الكبرى وليست في أي حال من الأحوال قدرا لا يمكن رده، بل تتطلب قراءة موضوعية تتيح الفرصة لإنتاج استراتيجيات وخطط استراتيجية وطنية محددة الأهداف على المستويين أو الأمدين القريب والبعيد، وتمتلك مقومات خوض وإدارة معارك مصيرية في التوقيت المناسب وبكفاءة عالية، وذلك تجنبا لخيبات الأمل والإحباطات والسقوط في دورة جديدة من التطرف أو وجلد الذات.
وتُعرف الاستراتيجية بأنها مفهوم ذو دلالة عسكرية، إذ استخدمت في الحروب القديمة من أجل وضع الخطط المناسبة للإعداد للحرب قبل وقوعها. ومن تعريفاتها أنها مجموعة من القواعد والمبادئ التي ترتبط بمجال معين، وتساعد الأفراد المرتبطين به من اتخاذ القرارات المناسبة بناء على مجموعة من الخطط الدقيقة، والتي تعتمد على وضع الاستراتيجيات الصحيحة للوصول إلى تحقيق نتائج ناجحة.
وتوجد مجموعة من الأهداف التي تحرص الاستراتيجية على تطبيقها، وهي: معرفة الوضع الحالي للعمل الذي ستعمل على تنفيذه، والتعرّف على كافة العناصر المكوّنة له. وتحديد كافة الأدوات، والوسائل التي ستستخدم لتطبيق العمل. وإدراك إيجابيات وسلبيات العمل المرتبط بالاستراتيجية.
وتعتمد الاستراتيجية على رزمة مبادئ وتتعدد أنواعها ومنها: الاستراتيجية التوجيهية، الاستراتيجية الإدارية، الاستراتيجية الإعلامية، الاستراتيجية العليا والاستراتيجية الأسمى Meta-strategy.
ووفقا للاستراتيجية المحددة يتم ابتكار التكتيكات المناسبة لخدمة وضمان نجاح الخطة الاستراتيجية التي تلبي احتياجات وأهداف الدول خلال فترة تاريخية محددة.
ولعل من الشروط الرئيسية لتجنب فشل أي استراتيجية طموحة التالي: تجنب الخلط بينها وبين تكتيكاتها، كي لا يتحول التكتيك إلى بديل للاستراتيجية، تجنب الفهم والتطبيق الميكانيكيين للاستراتيجية، وتمتع الجهة المشرفة على تنفيذ الاستراتيجية بالكفاءة بالرؤية الثاقبة لدرجة المرونة اللازمة لنجاح الاستراتيجية التي يشترك في تنفيذها خبراء وعلماء ورجال أعمال وجنرالات وقادة رأي عام، وهؤلاء ليسوا روبوتات أو آلات ميكانيكية، بل هم القادرون على الابتكار والإبداع في تسخيرها لخدمة الاستراتيجية المحددة. لقد وضع الإسرائيليون عدة استراتيجيات منها استراتيجية 2020 واستراتيجية 2035 واستراتيجية 2025 واستراتيجية 2075. وخصص واضعو استراتيجية إسرائيل لعام 2028، على سبيل المثال، ملحقا للدروس المستفادة من تجارب ست دول صغيرة ناجحة. ودرسوا تجارب كل من إستونيا وفنلندا وأيرلندا وسنغافورة والسويد وتايوان من كافة الجوانب، وبخاصة قدرة اقتصاداتها على المنافسة الدولية وتحقيق إنجازات اقتصادية.
وعربيا، ثمة محاولات جادة لصياغة استراتيجيات وخطط استراتيجية طموحة، ولعل تعددها وتنوع أنواعها ومجالاتها، يشكل توطينا للغة العقل والبحث والتدبير والتسخير ومفرداتها المعبرة عن تزاوج إرادة ومصالح المجتمعات والدول، وضمان استقرارها وحيوية مسارها التنموي الحضاري. وبذلك تكون الاستراتيجيات مقبرة الخرافات المتنوعة التي أفضت إلى كوارث وخيبات مستديمة.