شكّلت موجات المهاجرين التي تدفقت على اليونان منذ منتصف عام 2015 حتى ربيع 2016، فرصة نادرة للتنظيمات الإرهابية، لترسل عملاءها بهويات مزورة من سواحل تركيا إلى اليونان، ومنها إلى دول أوروبا الغربية. ويرصد كتاب «طريق مولنبيك الرقة» الصادر عن دار مدارك للنشر، لمؤلفه نور الدين الفريضي، استغلال تنظيم داعش موجات الهجرة واللجوء التي عبرت نحو أوروبا ليمرر بعض عناصره، إذ قاموا بتفجيرات وأعمال إرهابية عدة.
يشدد كتاب «طريق مولنبيك الرقة» الصادر عن دار مدارك للنشر لمؤلفه نور الدين الفريضي على أن تنظيم داعش استغل موجات الهجرة واللجوء التي عبرت نحو أوروبا ليمرر بعض عناصره حيث قاموا بتفجيرات وأعمال إرهابية عدة.
المؤامرة الفاشلة
في ساعات الغروب من الخميس 15 يناير 2015، في فيرفيي جنوب بلجيكا، داهمت قوات مكافحة الإرهاب شقة وسط المدينة وأمطرت من فيها بالرصاص. فسقط قتيلان هما خالد بن العربي وسفيان أمغار واعتقل رجال الأمن مروان البالي. وعثرت في الشّقة على 3 رشاشات كلاشينكوف وأسلحة فردية وعدد من أزياء الشرطة البلجيكية و2 من أجهزة الاتصال وما بين 200 إلى 300 طلقة والمواد التي تدخل في صناعة مادة متفجرة استخدمت لاحقا في اعتداءات باريس وبروكسل.
متهمون أمام المحكمة
وقف 4 من المتهمين الرّئيسيين أمام المحكمة الجنائية في بروكسل، في مايو 2016، وهم صهيب العابدي، محمد حمزة إرشاد، مروان البالي، وعمر دماش (جزائري).
العابدي (26 سنة) بلجيكي من أصل مغربي. ترعرع في «مولنبيك». لم يتجاوز الثانوية. متخصّص في صنع الهويَّات المزوَّرة، وتؤمِّن خبرته في التزوير أرباحا مالية مكّنته من العيش في قدر من الترف.
أثبت المحقّقون البلجيكيون تواصله مع أحد منسِّقي اعتداءات باريس، زعيم كتيبة المهاجرين في داعش عبدالحميد أباعود (أبوعمر البلجيكي) والّذي سيتضّح دوره الكبير في اعتداءات باريس في خريف 2015.
تسلَّم صهيب من رفيقه، الذي وقف إلى جانبه في قفص الاتهام، محمّد حمزة إرشاد طلب إعداد هويَّات مزوّرة لمساعدة بعض أعضاء الشبكة على العودة من سورية إلى أوروبا. وقدّم حمزة صور عبدالحميد أباعود و4 فرنسيين من حي «تراب» الباريسي واثنين من المغاربة لوضعها على بطاقات الهويَّة البلجيكيه. وهؤلاء كلّهم ضمن قائمة المتّهمين الغائبين ويشتبه في حينه أنّهم في سورية.
وكان خالد بن العربي وسفيان أمغار سافرا إلى سورية في ربيع 2014 حيث أقاما عدة أشهر. ثم عادا إلى بلجيكا عبر طرقات مختلفة. فعاد خالد بن العربي من سورية إلى بلجيكا عن طريق اليونان وبريطانيا وفرنسا. أما سفيان أمغار فعاد عن طريق تشيكيا وألمانيا. وتولّى المتهمان محمّد حمزة إرشاد ومروان البالي مهمّة نقل خالد من ليل الفرنسية إلى فيرفيي وكذلك نقل سفيان من آخن الألمانية إلى وكر الخليّة ليل 2-3 يناير 2015.
وعمل محمّد حمزة إرشاد في عدة شركات الحراسة بين 2008 و2010 ثم في شركة النقل في العاصمة بين 2012 و2014.
وسافر إلى شمال سورية عن طريق تركيا في 3 سبتمبر 2014 حيث احتضنه تنظيم داعش.
علاقات صداقةإلى هنا تبدو الشبكة بلجيكية بأعضاء بلجيكيين من أصول مغربية وباكستانية، وهم من الّذين تربّوا في الضاحية نفسها (مولنبيك) ويعرفون بعضهم بعض منذ الصغر. وقد انقطعوا عن الدراسة باكرا. ومكّنت علاقات الصداقة والانحراف من نسج خيوط الشبكة من «مولينبيك» إلى سورية حيث ميدان التدريب العسكري، وتشكيل كتائب المهاجرين للقتال في سورية والخلايا التي ستكلّف بتدبير العمليات الإرهابية في أوروبا بدءا بفرنسا وبلجيكا. واتضح أيضا أنّ المتهمين تقاسموا الأدوار.
وتمرّ طرقات خليّة «فيرفيي» عبر شقّتين في أثينا يتوقّف فيهما العابرون إلى سورية والآتون منها في مقدّمهم أحد منسِّقي المحاولة الفاشلة في فيرفيي منتصف يناير 2015 واعتداءات باريس 13 نوفمبر 2015، عبدالحميد أباعود. ويدير الشقّتين عمر دماش وهو جزائري في العقد الثالث. غادر بلاده في 2005 وتنقّل من إيطاليا إلى فرنسا ثم ألمانيا إلى أن وصل إلى اليونان حيث أقام 10 سنوات بصفة غير شرعية، وهو يتنقّل بين الشارع والسجن.
يعترف دماش بأعمال السرقة ونشاطات تهريب الهويَّات والبضائع التي جنى منها ما مكَّنه من الإقامة في اليونان عدة سنوات إلى أن اعتقلته السلطات اليونانية في أثينا في 17 يناير 2015 بطلب من القضاء البلجيكي، وتسلّمه القضاء البلجيكي في 28 يناير على خلفية احتمال ضلوعه في خليّة خطّطت لارتكاب اعتداءات إرهابية. وعثر المحقّقون في حوزته على 14 جهازَ هاتفٍ خلوي منها هاتف وجهاز كمبيوتر يعودان إلى عبدالحميد أباعود. وتفيد تحليلات المكالمات الهاتفية أنّ الأخير أقام في واحدة من الشقّتين في أثينا وتواصل فيها مع عدد من شركائه من الّذين عادوا إلى بلجيكا وفرنسا في غضون نهاية عام 2014، ومطلع 2015، ومنهم المشتبه فيهما اللّذان قتلتهما قوات الأمن في «فيزفيي» خالد بن العربي وسفيان أمغار.
طلاق نفسي
وحكمت المحكمة على كلّ من صهيب ومروان ومحمّد حمزة بالسجن 16 سنة على خلفية مشاركتهم في نشاطات منظمة إرهابية خطّطت للقيام بأعمال إرهابية. وقال رئيس المحكمة بيير هندريكس عن المتّهمين الرئيسيين «إنّهم منحرفون، ذوو مستويات تعليمية متدنِّية، يعيشون على كاهل أنظمة الحماية الاجتماعية، تربُّوا في عائلات عددُ أفرادها مرتفع، دخلوا السجن مرات عدة في قضايا الانحراف والجريمة». واختتم الحكم متوجها إلى المتّهمين «إنكم في حالة طلاق نفسيّ واجتماعيّ مع المجتمع».
اختراقات داعش
شكّلت موجات المهاجرين الّتي تدفّقت على اليونان منذ منتصف عام 2015 حتى ربيع 2016 فرصة نادرة للتنظيمات الإرهابية لترسل عملائها بهويَّات مزوَّرة من سواحل تركيا إلى اليونان ومنها إلى دول أوروبا الغربية.
وواجهت السلطات اليونانية وهيئات الإغاثة الإنسانية، على مدى أشهر، سيلا لا يتوقف من المهاجرين وطالبي اللجوء، عبرالبحر، بمعدلات وصلت أحيانا إلى أكثر من 10 آلاف وافد في اليوم. وكلهم يحتاج المساعدة من دواء وغذاء ومواساة، لأن كثيرين أنقذتهم سفن القوات اليونانية ووكالة إدارة الحدود الخارجية التابعة للاتحاد الأوروبي وهيئات الإغاثة من الغرق. وكثيرون أيضا حملتهم أمواج بحر إيجة بين تركيا واليونان.
مئات الآلاف تمكَّنوا في النصف الثاني من عام 2015 من بلوغ سواحل الجزر اليونانية حيث تمّ تسجيلهم من قبل خفر السواحل قبل السماح لهم بمواصلة الطريق.
تطلّب عمليات تسجيل الوافدين عُدَّةٍ لوجيستية متقدمة لمراجعة الهويَّات التي كانت في حوزة الوافدين. وهم لاجئون فرّوا من مناطق النزاعات في سورية والعراق ومخيمات اللاجئين في لبنان والأردن وإيران وأفغانستان وباكستان وإريتريا والصومال. آخرون أتوا من دول شمال إفريقيا وغرب إفريقيا يبحثون عن فرصة للعيش في أوروبا.
إجراءات تقشفية
لم تكن اليونان في الفترة نفسها في وضع يؤهّلها لاستثمار أيّ سنت إضافي في مجال الأمن أو المساعدات الإنسانية. فهي تخضع منذ أعوام لإجراءات تقشفيّة غير مسبوقة فرضتها المؤسسات النقدية الأوروبية والدولية من أجل خفض العجز العام للموازنة والّتي بلغت حافة الإفلاس.
على مدى أسابيع في سبتمبر 2015، كان بين العابرين مهاجرين من المغرب العربي وأفغانستان وباكستان والصومال وغيرها يحاولون انتحال هويَّات سورية للدخول إلى أوروبا. والمضحك أن بعضهم يتلقى دروسا مدفوعة لتعلّم اللهجة السورية علَّه يتمكّن من مغالطة السلطات وقت تسجيل طلبه فينتحل هويَّة سورية ويقول إنّه أضاع جوازه لأنه فرّ من القصف وويلات الحرب وغادر البلاد حافٍ دون نعال فما بالك بالهِّوية. وهي حيلة لا تنطلي على رجال الأمن والمحقّقين في إدارات اللجوء. ويسألون المرشَّح عن تفاصيل السكن والشارع وموقع الكنيسة أو الجامع وأسماء الجيران والأكلات التي تميّز المدينة أو الضيعة. ويستعين رجال الأمن بمترجمين من البلدان الأصلية للاجئين من أجل مقارنة البيانات والتعرّف إلى اللّهجات، عند الاقتضاء.
طوابير لا تنتهي
تمتدّ طوابير اللاجئين في «ايدوماني» في حدود اليونان مع مقدونيا. يصلون في القطارات والحافلات وسيارات الأجرة آتين من أثنيا ومن الموانئ اليونانية الأخرى. كلهم يحمل ورقة تحتوي أدنى تفاصيل هويَّته. يقدِّم الورقة إلى حرس الحدود اليونانيين ويتركون سبيله يعبر على القدمين عبر مسلك ترابي يقودهم إلى الجانب الآخر من الحدود مع مقدونيا في «غيفغيليا». يدخلون خياما، نصبتها هيئات الإغاثة، تحت مراقبة الأمن الذي يراجع الورقة اليونانية تارة تستبدل بوثيقة مقدونية وأخرى لا.
يقادون في طوابير إلى عربات القطار المكتظّة التي تنقلهم على نفقاتهم إلى محطّة ريفية في شمال مقدونيا حيث يترجَّلون ثم يسيرون على الأقدام نحو صربيا. يظلّون أياما وليالي في حدود صربيا. ينامون بين البرك والمزابل، ينتظرون فرصة التسجيل والعبور إلى بلغراد. ثم يواصلون الطريق في حافلات تقلّهم إلى حدود صربيا مع كل من المجر أو كرواتيا. وفي كل لقاء مع أيّ لاجئ في البلقان يسألك عن وضع المعابر خاصة إن كانت السلطات تفرض على الوافد تسجيل بصماته. والخوف من تسجيل البصمة مردّه أنّ المهاجر أو طالب اللجوء يتطلّع للوصول إلى ألمانيا أو السويد.
وإذا سُجّلت بصمته في المجر فهو ملزم بتقديم طلب اللجوء في المجر حيث يبحث طلبه ويتخذ القرار بشأنه. ويحمل كثير منهم هواتف ذكية بها تطبيقات تمكّنهم من التواصل المباشر بين بعضهم بعض للتعرّف إلى انسياب التدفق البشري، العوائق في الحدود، فرض تسجيل البصمات؟ وأي طريق أفضل للوصول إلى ألمانيا أوالسويد؟ وهما البلدان المفضّلان بالنسبة إلى مسافري طرقات البلقان الّذين اعتقدوا بسهولة شروط الحصول على صفة اللجوء في كلاهما.
اختراق بهويات مزورة
من بين الأسئلة التي تهمُّ التحقيق الأمني هي كيف يمكن للسلطات اليونانية والمقدونية وغيرها تسجيل بصمات آلاف الوافدين في كل يوم؟ أمر صعب للغاية إن لم يكن مستحيلا. وهل يمكن للمهرِّبين ولمقاتلي داعش والقاعدة وجبهة النصرة وتنظيم خرسان اختراق تيارات الهجرة وبلوغ أوروبا بهويات مزورة؟ نعم. وهناك أدلّة كافية.
ويرى مدير «مركز تحليل الإرهاب» جان شارل بريزار أن تدفُّق مئات آلاف اللاجئين سيدفع تنظيم داعش إلى «تغير استراتيجي» كامل. «فبعد أن كان يعوّل التنظيم على انتداب انتحاريين في الساحة الأوروبية فانّ الفرصة توفّرت كي يرسل مقاتلين من ذوي الخبرة عبر أفواج اللاجئين».
وحدّدت أجهزة الاستخبارات أنّ أحد المنسِّقين الرّئيسيين للاعتداءات، عبدالحميد أباعود، قد عاد إلى أوروبا قبل أربعة أشهر على اعتداءات باريس من أجل الإشراف على عمليات تحضير ترسانة التفجيرات. وساد الاعتقاد في بداية العام 2015 أنه ربما ظلّ في اليونان أو عاد إلى سورية بعد أن وثّقت أجهزة الشرطة وجوده في أثنيا خلال التحقيقات في خليّة «فيرفيي» والتي أحبطتها قوات الأمن البلجيكيه في منتصف يناير 2015. لكنّ المعلومات التي سرّبتها الاستخبارات المجرية ونشر بعضها في نوفمبر 2016، تفيد أن عبدالحميد أباعود عَبَرَ الحدود بين صربيا والمجر في 1 أغسطس 2015 مع انتحاري آخر هو أيوب الخزاني الّذي سيفشل لاحقا في محاولة ارتكاب مذبحة في قطار «تاليس» الذي يربط بين بروكسل وباريس حيث سيطر عليه ثلاثة مسافرين، اثنان منهم عسكريان أميركيان في زيّ مدنيّ، في أغسطس 2015. واستنتجت أجهزة الأمن المجرية أنّ 10 من الانتحاريين الّذين نفّذوا اعتداءات باريس في 13 نوفمبر 2015 وبروكسل في 22 مارس 2016، قد أقاموا أياما في المجر قبل مواصلة الرحلة إلى فرنسا وبلجيكا. «وتشير أيضا إلى أن شابا جزائري يدعى بلال س (20 سنة) دخل المجر في 16 يوليو يشتبه في أن أباعود أرسله لاستطلاع الطريق من تركيا إلى المجر مرورا باليونان ومقدونيا وصربيا خلال الفترة بين يونيو وتموز 2015. لكنّ الاستخبارات المجرية رصدت تحركه واعتقلته في 16 يوليو لأنّه كان يحاول دخول النسما دون هويَّة سفر. وقدّم بلال س. نفسه على أنّه لاجئ سوري يدعى جراد ساماس. وتمكّن الأخير من دخول ألمانيا بعد أن أفرجت عنه السلطات المجرية. واعتقل لاحقا على خلفية «الانتماء إلى منظمة إرهابية».
ويشتبه في أن أيوب الخراني عاد إلى أوروبا مع عبدالحميد أباعود في بداية أغسطس، وأن الأخير قد يكون أشرف على ترتيب محاولة الاعتداء على المسافرين في القطار. ويقول جان شارل بيزار إن أباعو والخزاني دخلا أوروبا في نفس الموعد وعبرا الطريق التي سلكها بلال (جزائري). وقد تمّ تحديد دخولهما في معبر «روتزيك» بين المجر وصربيا في 1 أغسطس 2015. وبعد «استراحة» دامت أربعة أيام في فندق في بودابست، افترق الاثنان حيث دخل عبدالحميد أباعود إلى النمسا على متن سيارة بينما سافر أيوب الخزاني إلى فيينا على متن القطار في 4 أغسطس. وهو آخر موعد رصد فيه أباعود. فهل عاد إلى بروكسل وأين تخفّى؟ ومن كان يحميه؟
والأكيد حسب ما كشفت عنه التحقيقات أنّ بمجرّد دخول أباعود إلى أوروبا تحرّك صديقه وابن ضاحيتة «مولنبيك» صلاح عبدالسلام حيث قام بثلاث رحلات على متن السيارة من بروكسل إلى المجر بين 30 أغسطس و2 أكتوبر بين بلجيكا والمجر وبين بلجيكا وألمانيا حيث نقل 10 من الانتحاريين إلى بروكسل.