مثلما نقول: إن الإرهاب لا ملة له؛ لأنه ملة شوهاء في ذاتها، فإنه يمكننا القول: إن الاستبداد الفكري ملة واحدة، على الرغم من أنه قد يكون باسم العادات أو التقاليد أو الدين أو العرق أو القبيلة أو التنظيم أو الجماعة.

كلٌّ منا قد يمارس الاستبداد الفكري بوعي أو بدونه، والذين يمارسونه بوعي هم مؤصّلوه والداعوان إليه، ومن البدهي أن يكونوا أصحاب أجندات خفية عمادها السيطرة على العقول تمهيدا للسيطرة السياسية الكاملة؛ ذلك أن كبح جماح العقول هو الخطوة الأولى والأهم نحو تربية الأتباع، وتشكيل الحشود المؤيدة تأييدا مطلقا. أما الذين يمارسونه بدون وعي، فهم

-في الغالب- تابعون ينقصهم الوعي، وحين أقول إنهم تابعون، فذلك لأنهم يمارسون الاستبداد الفكري، بهدف الحصول على الإشادة والتأييد والدعم، وربما نالوا بعض الامتيازات التي قد تصل إلى الدعم المالي أو الوظيفي؛ بمعنى أنهم براجماتيون بسطاء يبحثون عن مصالح ذواتهم، دون أن يدركوا خطورة فعلهم، ودون أن يستوعبوا

أن دافعيهم نحو الاستبداد الفكري ذوو أهداف أبعد وأخطر من الاستبداد ذاته، وأعمق مما يظهرونه من أسباب التأييد عليه، وهذا النوع لا يهمه أن يوصَم بأنه مستبد، بل إنه قد يفاخر بذلك، فيتباهى -مثلا- بأنه منع فلانا من المشاركة في ندوة، أو حال دون وصول فلان إلى وظيفة لها تأثير في الوعي، أو عمل على منع بيع كتاب،

أو حذر من تداول رواية، ومباهاته هذه مباهاة بلهاء؛ لأنه يرى الصواب فيما يفعله.

أزعم أنه لا توجد مشكلة في معرفة الصنفين السابقين، إلا أن الصعوبات كلها تكمن في تمييز صنف ثالث هو إلى البراجماتيين أقرب من حيث كونه يمارس الاستبداد الفكري لينال إعجاب مؤصّلي الاستبداد، فيمنحونه الدعم المفضي إلى مكاسب آنية أو مستقبلية، غير أنه

-في الوقت نفسه- يحاول بالطرق الحجاجية كلها أن ينفي عن نفسه تهمة الاستبداد الفكري، وبالتالي ينفي ما يتبعها من تهم: كالأدلجة، أو العمل الحركي، أو التطرف. ومحاولاته هذه لا تقف عند النفي بالقول، وإنما تتجاوزه إلى

خلْق استثناءات يحتج بها عند نفي التهمة عنه، وبها يدّعي انفتاحه على الآراء والاتجاهات كلها، ثم إنه -في المقابل- يتخذها أدلة على دهائه، في حال وجّه له مؤصّلو الاستبداد لوما أو عتبا أو تقريعا بسبب وجود هذه الاستثناءات التي لا ترضيهم؛ لأنها تشكّل خطرا على تيارهم.

هذا النوع أكثر براجماتية من البراجماتي التابع الذي يمارس الاستبداد بدون وعي؛ لأنه نوع خادع موهِم بأنه مع حرية الرأي والفكر، فيما هو مع مصلحته الذاتية فقط، فإن وجدها عند المستبدّين فعل ما يروق لهم، وإن وجدها

عند أضدادهم ادعى أنه منهم، وهو -بطبيعة الفعل- خائن حقيقي للطرفين، سواء أكانوا دعاة حرية الفكر والإبداع، أم مؤصّلي الاستبداد، وعلى الرغم من ذلك فإن مؤصّلي الاستبداد قد يستخدمونه أداة مؤقتة تساعد على تحقيق أهدافهم، غير عابئين بخيانته التي يعلمونها قبل غيرهم؛ لأنهم قادرون على الإلقاء به في الهامش بعد انتهاء صلاحيته، وانعدام فائدته.

ليس الاستبداد الفكري الهادف إلى المكاسب خللا وحسب، وإنما هو وباء أفسد الحياة كلّها، وأفقد الناس الثقة في بعضهم، وحوّل التعاملات والحوارات والخلافات إلى صراعات شبيهة بصراعات البقاء، وتسبب في كثير من الظلم والإقصاء والتشويه.

هو وباء؛ لأنه استبداد ذو مرجعيات معقدة مخادعة براقة، ومبررات لا نهاية لها، مما يجعله خاليا من الأخلاقيات بوصفه استبدادا، وبوصفه مخاتَلة، فضلا عن قيامه على محورية الرأي وأحاديته، والمحورية هنا ناجمة عن محورية أصله الفكري المتمثلة في رضوخ المستبدين لشخص أو أشخاص رضوخا لا رفض فيه، ولا جدال، والله المستعان على ما أصف.