في الواقع العربي تختلف السياقات والأفكار من بلد إلى بلد آخر، وعلى رغم عمليات التأثير والتأثر المتبادلة بين الأطراف المختلفة إلا أن كل بلد يحمل سماته الخاصة التي فرضتها نشأة الدورة والصراعات السياسية التي انبنت عليها بعض الدول وعلى هذا الأساس يمكن قراءة أفكار كل بلد من خلال سياقات النشأة أو سياقات التحولات التي جاءت عليه لاحقا وتحول تلك البلاد من سياسات إلى أخرى نقيضة، أو مدى قابلية ذلك البلد في تبني أفكار وأيديولوجيات تختلف عن مدى قبولها في بلد آخر.
تختلف، وفق هذا التصور المبدئي، الجمهوريات العربية عن الملكيات في خريطة دول الشرق الأوسط، فدول مثل دول الخليج العربي والأردن والمغرب التي حافظت على نظام حكمها المشيخي أو الملكي أكثر استقرارا من تلك الدول التي تحولت إلى جمهوريات، والاستقرار عادة هو الذي يقود إلى مزيد من النمو الاقتصادي والتنموي، وهذا مشاع ومعروف في دول الاستقرار أكثر من تلك الدول التي تعيش على الصراعات، وأحصر الكلام هنا طبعا في السياق العربي، لأنه يختلف عن السياق العالمي، ومن الصعب تعميم نموذج واحد على بقية النماذج، إلا أن ظاهرة استقرار الدول الملكية واضحة بشكل كبير في السياق العربي.
على هذا السياق فمدى تأثير الأفكار والأيديولوجيات، بغض النظر عن مدى صحتها من عدمه، في الجمهوريات
أكثر من مدى تأثيرها في غيرها، خاصة على المستوى الشعبي، وما يشغل المواطن الخليجي من أفكار ليست
هي التي تشغل المواطنين في الدول الأخرى، والسبب هو في تأثيرات النشأة والتحولات في البلاد العربية، مثلا: انتشرت الأفكار الاشتراكية والقومية في الجمهوريات، ووصلت الأحزاب الاشتراكية إلى السلطة وغيرت وجه المجتمع ككل، وقادت إلى تغييرات على المستوى الاقتصادي والتنموي، لكن لم يحقق ما كان يطمح إليه المواطنون، حيث نسبة الفقر والجهل صارت أكبر في حين لم تؤثر الأفكار الاشتراكية في الخليج إلا على مجموعات صغيرة
لم تستطع البقاء، وأصبحت سردية تاريخية، وأعيد التكرار هنا بأن السبب في رأيي هو أن سياقات النشأة للدول الخليجية وتحولاتها تختلف عن سياقات وتحولات غيرها من دول الجمهوريات.
سياقات النشأة في دول الخليج كانت وفق المسألة الاقتصادية وبالاستفادة من الشركات العالمية الغربية في حين سياقات النشأة في دول الجمهوريات هي الصراع مع المستعمر، سواء أيام الثورات ضد الدولة العثمانية أو الاحتلال البريطاني والفرنسي والتقسيمات التي حصلت للمنطقة العربية.
الصراع مع المستعمر لم يحصل في دول الخليج، لأنها لم تخضع لاستعمار. صحيح أن هناك نفوذا لبريطانيا في منطقة الخليج وقتها، لكنه النفوذ الذي لم يصل إلى مرحلة استعمارية كما حصلت في الدول العربية الأخرى،
لذلك فالعلاقة بين الخليج مع الآخر الغربي ليست كعلاقة الدول العربية التي خضعت للاستعمار، فإذا كانت الدول المُستعمَرة ذات علاقة تحررية من ذهنية الاستعمار فإن دول الخليج ذات علاقة استفادة وتبادل اقتصادين، والأمران مختلفان تماما أشد الاختلاف، والذي حصل أن تم تصدير بعض الأفكار من بعض الأيديولوجيا العربية التي ما زالت تعيش ذهنية الصراع مع المستعمر إلى الخليج، وما زال بعض الإخوة العرب الذين يعملون في الخليج يعيدون أسطوانة أفكار التحرر من المستعمر، خاصة من قبل التيارات العروبية والإسلاموية، في حين أن هذه الأفكار ليست موجودة في الخليج من أساسه، ويتم تخوين القضايا العربية من قبل هذه التيارات لدول الخليج لرغبتها في خوض صراع تاريخي (وهمي) مع الدول الغربية ليس هو صراع المواطن الخليجي.
كتب الصديق عبدالله المطيري في مقاله هنا في الوطن: (السعودية والخليج والأيديولوجيات الأممية) ما نصه: «الصراع الفكري والعملي الذي تواجهه شعوب الخليج من قبل الأيديولوجيات الأممية صراع حقيقي يلامس الحياة المباشرة لملايين المواطنين. ملايين البشر في الخليج لا يبدون في تحليلات كثير من الدعاة الأمميين إلا وسائل لتحقيق أحلام وأفكار أولئك الدعاة.
من المهم جدا العودة للمنطق المباشر للمواطن في دول الخليج. المنطق هذا يقول: الدولة التي أعيش فيها ليست صنيعة خارجية وليست علامة هزيمة وليست مرحلة في طريق حلم غيري، بل تعبير عن حياتي وحياة مجتمعي وضرورة للسلام الأهلي وللرفاهية والتقدم. هذا المنطق يرفض استعمال الشعوب لتحقيق أجندات أممية. هذا المنطق كذلك يدرك أن دول الخليج مثلها مثل دول العالم يجب أن تتحرك باستمرار باتجاه المزيد من الإصلاح والتطوير لمنظومات الحقوق الداخلية. هذا الإصلاح هدفه المواطن وحياته الكريمة وليس هدفه الإعداد لمعركة المستقبل كما تدعي التيارات الأممية. المنطق المباشر للمواطن يرفض التعامل معه كرصاصة في معركة يؤمن
بها غيره»، وأرى هذا الكلام صحيح فعلا إذا ما أعدناه إلى ظروف النشأة ومسيرة الدول المختلفة ما بين الخليج والدول العربية الأخرى.
المواطن الخليجي لم يكن في يوم من الأيام لديه مشكلة مع الآخر الغربي أو الشرقي، بل العكس تماما جاء الآخر الغربي ليكون مقدما للخبرات الاقتصادية والتنظيمية ومعاونا لنهضة دول الخليج على هذا الأساس، فإن غالبية الأفكار الأيديولوجية ذات النفس الصراعي -إذا صح الوصف- من حزبيات إسلاموية أو عروبية لا تتناسب مع فكرة المواطنة في دول الخليج، ولذلك نرى مواطني دول الخليج العربي بدؤوا يرفضون تلك الأفكار ليهتموا أكثر في مسائل التنمية أكثر من غيرها من الصراعات الحزبية العربية المستوردة.