القاعدة مرة أخرى.. هذه ليست مجرد عصابات يتم القبض عليها، ومن ثم تجريدها مما تحمله من أسلحة وتمويل، ولكنها عبارة عن دوائر فكرية واعتقادية بالدرجة الأولى، حتى حين يتم القبض عليها، ومصادرة كل ما تملك فإن شيئا واحدا من الصعب أن تتم مصادرته فورا وهو عقيدتها التي تنطلق منها.
لا يمكن بأي حال التصديق بأن كل ما تقوم به القاعدة يتم بجهود ذاتية، ومن خلال تلك الكوادر البائسة والمتشردة، بل لا بد من وجود قوى استخباراتية تدعم ذلك وتستغله في تحقيق كثير من أهدافها، هنا يبدأ فرز المسؤوليات، فالقوى الإقليمية لا تصنع أفراد القاعدة، ولا المنتمين لخلاياها، ولكنها تستفيد منهم وبالتالي فهي أمام كوادر جاهزة ولديها من العقيدة والإيمان بما تقوم به، تلك العقيدة وذلك الإيمان الذي يرى في الدليل الشرعي لديه ما يمكن اتخاذه مبررا وقيمة فقهية عليا لا تجيز التكفير والعنف فحسب، بل تحببه وتحث عليه. والذي يصغي لكل خطابات القاعدة سوف يجد تلك الكثرة في حضور الأدلة الشرعية وكثافتها.
إذن فالعامل الإقليمي ليس هو المؤسس، ولكنه المستثمر، مما يعني أن العقدة والمشكلة تظل محلية بالدرجة الأولى، والقوى الإقليمية مهما كان دورها إلا أنها لا تقارن بدور المصنع الذي خرجت منه تلك الكوادر (الجهادية) الجاهزة.
في حديثه الذي بثه التلفزيون السعودي، قال محمد العوفي، أحد عناصر القاعدة الذين سلموا أنفسهم للسلطات الأمنية السعودية، قال حديثا مهما للغاية، بل إنه يحمل صوتا في الغالب لا تعثر عليه بين التائبين من العائدين من خلايا الإرهاب والتطرف والعنف، ذلك أنهم في لقاءاتهم التلفزيونية يبدون منكسرين، وتائبين، وفق المفهوم السطحي للتوبة، والمبني على الإقلاع عن ممارسةٍ مما، لكن حديث العوفي حمل كثيرا من التحليل، ومن الآراء الجريئة، كان من أبرزها قراءته وفهمه للحرص الذي تبديه الجهات الداعمة للقاعدة على الكوادر السعودية، وتقديمهم كزعماء خلايا وكناطقين إعلاميين للقاعدة عبر مختلف المواد الإعلامية المسجلة التي تبثها بعض المواقع المتعاطفة مع التنظيم على شبكة الإنترنت، والتي يظهر فيها السعوديون على أنهم كوادر مؤثرة وفاعلة وقيادية، بينما يكشف محمد العوفي خلاف ذلك تماما.
تدرك القاعدة والذهنية التي تقف خلفها استخباراتيا أن وجود سعودي على مستوى القيادة يمثل استفادة من الخلفية الدينية للسعوديين، وتحويلها إلى محفز على صواب ما يحدث، إضافة إلى أن وجود السعودي كقائد إعلامي تستفيد منه القوى الإقليمية في تكريس صورة سلبية عن المملكة على أنها تحوي ما يبرر الثورة والخروج عليها دينيا، وأنها لولا إخلالها بالشريعة والحق لما ثار عليها هؤلاء الثائرون من طلاب الجهاد والشهادة (الكثير من الخطابات المتشددة داخليا تدعم هذه الرؤية بشكل أو بآخر، حين تبالغ في الإنكار ضد أي قرار تنموي).
في حديثه حول محور: لماذا الشباب السعوديون هم المستهدفون أكثر من غيرهم، قال محمد العوفي كلاما مؤثرا للغاية، حين تناول التدين والنزعة الدينية والتركيز الديني والعقدي لدى السعوديين، وأهمية هذا الحديث تأتي من كونه توصيفا لما يفترض به أن يكون مانعا من الانجراف خلف جماعات الإرهاب، فالعقيدة الراسخة والتمكن الديني - بحسب رأي الخطاب الديني التقليدي حين يهم بمواجهة القاعدة - هما التميمة التي لو امتلكها هؤلاء الشباب لما التحقوا بتلك الجماعات ولما تم استغلالهم، فيما يكشف محمد العوفي عن أن حجم التدين وعمق النزعة الدينية لدى الشباب ولدى حديثي التدين، هو الذي يسهم في انحرافهم والتغرير بهم.
هذا الواقع يكشف أن لدينا مستويين من النزعة الدينية، وإلى الآن لم نعش خطابا ورؤية تحليلية دينية قادمة من داخل التدين بمختلف مستوياته تستطيع أن تقرأ وتفض الاشتباك القائم بين الخطابين، فبالنسبة لحديثي التدين، وهو توصيف لمن يعرف في الثقافة المحلية بالملتزمين، أي الذين اتجهوا لوقف ما يمارسونه من محرمات ودخلوا إلى دائرة الالتزام، وهؤلاء لم يدخلوا إلى دائرة الإسلام، فهم مسلمون أصلا وأبناء مجتمع مسلم، ولكن التوجه نحو التدين بشكل هستيري قادم من فكرة التوبة التي روجت لها المواعظ في التسعينات، ثم حين تنظر إلى ما يتوب منه هؤلاء الشباب تجده لا يتعدى ممارسات سلوكية طفيفة كالتدخين أو سماع الأغاني أو حلق اللحية وغيرها من الممارسات اليومية التي طالما انشغل بها الوعظ كثيرا.
هؤلاء لا يتوبون عن سلوك فقط، وإنما يعيدون تشكيل أفكارهم بطلاق واضح للحياة الدنيا، مع اتساع مطلق في خوفهم من مواجهة الحياة الحديثة، والشعور بالغربة، وهي واحدة من الأدبيات التي يتغنى بها الوعظ كثيرا.
إن التشدد والوعظ المنطلق منه أفرز خلطا واضحا بين حدود التدين، مما أنتج نشوء جيل ذي أبعاد ومواصفات حركية، وبينما تغيرت، ظلت معايير النهي والتحريم فيما يتعلق بالسلوكيات كما هي تماما، مما أوقع الجيل الجديد المتدين بالفطرة في حالة من التناقض بين ما يعيشه وبين ما يعرفه من أحكام فقهية عن حياته، لينتج عنه حالة من التوتر الذاتي لا تنفرج إلا باللجوء لفكرة وموقف يفصل بين حياته وبين واقعه، ويخلق له طموحات لا علاقة لها بالواقع.
إن كثيرا من الرحمة والشفقة يعتري كل من يشاهد شابا سعوديا من أتباع القاعدة، وهو يتحذلق أمام كاميرا رديئة وبدائية، ويحاول أن يسبغ على ما يقوم به من مواقف صفات من الجهاد والعلو وسمو النفس، ولكننا لا نشعر بأي استغراب ونحن ننصت إلى تلك اللغة الجهادية والنضالية وما فيها من إنكار وممانعة، فلقد تعودت أسماعنا كثيرا على هذه اللغة وهي بيننا قبل أن تنتقل إلى جبال اليمن أو كهوف أفغانستان.
لقد كان محمد العوفي واضحا وإيجابيا في كثير من النقاط التي تناولها، فنحن ندرك أننا مستهدفون، لكن مسؤوليتنا تكمن في تجفيف المناخ الذي يخلق من أبنائنا كوادر لقوى تسعى لاستهدافنا، فنحن مسؤولون للغاية عن أن قنابل خصومنا تمر إلينا عبر أجساد أبنائنا.