تقول القصة كما وصلتني إنه في أحد الأيام ذهب شاب على مستوى عال من القدرات الأكاديمية لمقابلة من أجل التقديم لمنصب إداري في شركة كبيرة، وبعد أن اجتاز المقابلة الأولى؛ كان عليه مقابلة المدير، الذي وجد من السيرة الذاتية أن سجل الشاب الأكاديمي كان يشير إلى أن تقديره العام لم ينزل أبدا عن "ممتاز" منذ بداية المرحلة الجامعية حتى الدراسات العليا، فسأله المدير: هل كنت على منحة دراسية، فأجاب الشاب بالنفي، فسأله: هل كان والدك يدفع الرسوم الدراسية، أجابه: والدي توفي حين كان عمري سنة ووالدتي هي من كانت تدفع، وما هي مهنة أمك؟ سأله المدير، فرد الشاب: عاملة، تغسل الملابس ولكن في المنزل، هنا صمت المدير ونظر إلى الشاب بتفحص وقال: هل يمكن أن أرى يديك؟ استغرب الشاب ولكنه مد يديه التي كانت في حالة جيدة بل كان يظهر عليها أنها لم تقم بأي عمل يدوي شاق، وقربها من المدير ببطء جاهلا ماذا يتوقع، هنا سأل المدير: هل حدث أن قمت بمساعدة والدتك في غسيل الملابس؟ أجابه الشاب: أبداً، ثم إنها لم تكن تقبل أن يلهيني أي شيء عن دراستي، وهي من أفضل الغاسلات والأسرع أيضا، هنا صمت المدير ثم تحرك من مكانه ووقف خلف الشاب واضعا يده على كتفه وقال: أريد منك أن تقوم بمهمة أخيرة قبل أن أتوصل لأي قرار، عندما تعود الليلة للمنزل، أريدك أن تساعد والدتك في تنظيف يديها بعد العمل، ثم تأتي لمقابلتي في صباح الغد، هل يمكن أن تقوم بذلك؟ استغرب الشاب ولكنه هز رأسه وأجاب: بالطبع سيدي.
رأى الشاب أنه ما زال لديه فرصة للحصول على الوظيفة بعدما شك أن المدير يسأله في أمور خارج نطاق مهام العمل ومسؤولياته، وقال في نفسه: ربما لأنه يريد أن يجد ثغرة ما لكي يرفضني، ربما هنالك أحد في ذهنه يريد أن يضمن له هذا المركز، وما يقوم به هذا المدير ليس سوى محاولات لإيجاد الأعذار، ولكنها فرصة ولن أدعها تضيع مني! وعليه حين عاد إلى المنزل بحث عن والدته فوجدها تقوم بغسل إحدى الطلبيات، فتوجه إليها وأمسك بيديها وسحبها نحو حنفية الماء، وبدأ بعملية غسلهما، أما هي فبالرغم من أنها كانت في حالة اندهاش، سلمت إليه ولم تسأل، هنا اكتشف الشاب ولأول مرة الجروح والكدمات، أبطأ حركته ودموعه تتساقط على يديها مع الماء، وذلك لأنه ولأول مرة يلاحظ ما كان يجعلها ترتجف من الألم بين يديه كلما مرر أصابعه عليها، إنهما اليدان اللتان كانتا تقومان بغسل الملابس كل يوم من أجل أن تدفع له الأقساط الدراسية، إنه الثمن الذي كانت تدفعه من أجل أن تراه خريجا ترفع به رأسها وتشد ظهرها الذي كان يصرخ ألما من كثرة الانحناء، بعد أن انتهى من ذلك توجه إلى بقية الغسيل وقام بإنهاء العمل عنها، وفي تلك الليلة حدثت تغيرات في علاقة الابن مع والدته، تحدثا كثيرا، وبكيا معا أكثر.
وفي صباح اليوم التالي، ذهب إلى مكتب المدير الذي لاحظ آثار الدموع والسهر في عيني الشاب وسأله: هل يمكن لك أن تحدثني عما فعلته بالأمس، وما الذي تعلمته من داخل منزلك؟ أجاب الشاب: قمت بتنظيف يدي والدتي وبعدما انتهيت قمت أيضا بغسل جميع الملابس المتبقية، هنا وقف المدير واقترب منه ونظر إلى عينيه كمن يريد ألا يفوته أي تعبير أو أي معنى، وقال: هلا حدثتني بماذا شعرت وأنت تقوم بذلك؟ فرد الشاب:عدا عن مشاعر الألم لكل ما كانت تعانيه أمي من مصاعب في صمت، ولم تكن تسمح لي بأن أرى سوى الابتسامة على وجهها، شعرت بشيء كنت أظن أنني أعرفه، شعرت بالتقدير، نعم التقدير لكل مجهود كانت تقوم به والدتي التي لولاها، بعد الله، لما كنت ناجحا في يوم من الأيام، تعلمت كيف أعمل معها، والآن فقط تعلمت مقدار صعوبة المجهود الذي يحتاجه القيام بعمل ما، وتعلمت أيضا أهمية العلاقة الأسرية، إنها أخذ وعطاء لا أخذ فقط، هنا صرخ المدير منتشيا منتصرا: وهذا ما أريده بالضبط من أي متقدم ناجح يريد أن ينضم إلينا، أن يعرف معاناة الآخرين حين يقومون بالعمل على إنجاز ما يطلب منهم، شخص لا يكون هدفه من الوظيفة الأمور المادية فقط، فهذا ليس عيبا، ولكن يعرف ويقدر الأمور الإنسانية أيضا، ورجع إلى مكتبه ووقع أوراق التعيين، وفيما بعد أثبت هذا الشاب تميزه في العمل ليس فقط على المستوى المهني بل على مستوى العلاقات الشخصية مع كل من كان يعمل في الشركة وتقدمت هذه الشركة كثيرا في عهده.
والآن وبعد هذه المقدمة الطويلة قد يتساول القراء لماذا؟ أجيبكم نقلت هذه القصة من أجل الدروس التي رددتها أكثر من مرة، أننا حين نوفر الحماية لأطفالنا معتقدين أننا نحميهم من الحياة نكون قد حرمناهم من الحياة، حين نحرمهم من القيام بأي مجهود عضلي خوفا من أن يضيع تركيزهم على مهمتهم الأولى بنظرنا، ألا وهي التحصيل الدراسي، نحرمهم من معرفة وتقدير المجهود الذي يقوم به والداهم، وعليه حين يبدأ أحدهم بالعمل يفترض أن كل من حوله يجب أن يستمع لرغباته ويعرفها ويحققها، ناهيك عن العمل من أجل راحته، وحين يقع أي خطأ يضع اللوم على من حوله لأنهم لم ينتبهوا لاحتياجاته أو طلباته أو أوامره، هذه النوعية من الشباب قد يكونون ناجحين في بداية حياتهم العملية ولكنهم على المدى الطويل لا يشعرون بطعم وقيمة الإنجاز، وعليه لا يقدرون مجهودات غيرهم فيخسرونهم.
إذا كنا من هذه النوعية من أولياء الأمور لنسأل أنفسنا هل حبنا لهم على هذه الطريقة يبني مستقبلهم أم يضعفه؟ نعم هنالك منا من يشقى من أجل أن يؤمن لهم المسكن والمأكل والمشرب وفوق هذا وذاك أفضل ما يمكن من سبل التعليم، ونستغرب حين نسمع عن قصص العقوق! وهنالك الغني الذي يملأ منزله بالخدم والحشم، ويرعبه أن يقوم أبناؤه بأي مجهود جسدي، بل بعضهم يعتبرها إهانة! في الحالتين النتيجة واحدة، يحرمهم من خبرات هامة للأسف لا تقدم لهم حتى في مدارسنا، سيحتاجونها فيما بعد، ماذا سيجري لهم لو أننا طلبنا منهم تنظيف غرفهم ورفع وغسل أطباقهم بعد الطعام وغسل أرضية الحديقة والسيارة، أو حتى درج أمام الشقة، المغزى هنا هو القيام بأي عمل دوري ذي مجهود جسدي لن ينقص منهم قدما أو ساقا! إن إمدادهم بالخبرة للتمكن من معرفة كمية الجهد ونوعية القدرات من أجل إنجاز أي عمل، كما يساهم في بناء شخصياتهم، سيساهم في تعرفهم على الحياة، والأهم في ذلك كله تقدير كل مجهود مهما ظهر، بالنسبة لهم، تافها أو لا يذكر، فلا يعرف قيمة المجهود إلا من قام أو يقوم به.