ربما يتذكر كثير من القرّاء بعض الممارسات التي كان يمارسها بعض المراهقين والشباب في حقبة الثمانينات والتسعينات الميلادية بعد أن ينخرطوا في ما كان يسمى التدين «الصحوي».
لعل أغلبنا يتذكر هيئة «المطوّع الصغير» الذي يدخل منزل عائلته مغضبا، ليمزق صورهم الفوتوجرافية أو يحطم تلفازهم الوحيد وهو مملوء بمشاعر نشوة التغلب على «الشيطان» دون اكتراث بما يحدثه تصرفه من أذى للآخرين.
قد تتسع دائرة جرأة ذلك الذي «لا تأخذه في الله لومة لائم» لتشمل الشارع ومساكن الآخرين، فيدمّر محلات بيع أشرطة الكاسيت والفيديو، ويحطّم أطباق الاستقبال الفضائي على أسطح المنازل بالحجارة أو برصاص بنادق الصيد.
كانت تحدث تلك الممارسات تزامنا مع خطاب دعوي يباركها، واستمر في اعتبارها الأصل في العلاقة مع الآخرين «غير المهتدين» حتى بعد أن تم التصدي لها من قبل السلطات الرسمية.
تطور الأمر خلال بضع سنوات فأصبح «المطوّع الصغير» يقتل مواطنيه، بل أقاربه أيضا، وهو مملوء بمشاعر نشوة التغلّب على «الشيطان» دون اكتراث لما يحدثه تصرّفه من (إبادة) للآخرين.
استطاعت السلطات القانونية ردع الممارسات العملية ولكنها لم تفعل الشيء ذاته تجاه التأصيل النظري الذي كان يكرّسه الخطاب الدعوي المؤسس لها. (حتى حين) كانت هذه العبارة تعمل كإجابة تسويغية تحاول فك التناقض في ذهن «المطوع الصغير» بين ما يدعوه له ذلك الخطاب وما يمتنع عن سلوكه عمليا في ظل الدولة. (نطلب من الله التمكين) كانت هي الأخرى عبارة دعاء تعمل على إزاحة الرغبات من الحركة الظاهرة لتتسلل إلى أعماق الوجدان، حيث تتخمّر كعجينة من بارود ينتظر التفجير.
لا يلبث الأمر أن يعتمل داخل كل «مطوع صغير» صراع تشغل (الحتى حينية) أحد طرفيه، وتشغل (الطلب تمكينية) طرفه الآخر. بحسب ترجّح إحدى كفتي الصراع يتحدد مصيره فإما أن يعمد إلى امتهان مداواة الرؤوس بالرقية «الشرعية»، أو يعبر الحدود نحو امتهان فصل الرؤوس على الطريقة «الشرعية». ولكن كثيرا ما حدث أن تعادلت الكفتان وآل جمع حاصلهما إلى (الصفر)، فتخلى «المطوع الصغير» عن شماغه المسدل أو ثبته بالعقال ليسهل عليه ارتياد المقاهي وتعاطي الشيشة بعد تلاشي أغلب مواهبه التي تيسّر له انخراطه في مجالات أخرى يتصالح بها مع الحياة، وبعد استلاب ذاته في عرض مسرحي بائس استهلك أعواما من (عدّاد) سنوات عمره. ذلك لأن ثمة ما لم يخبره به أحد!
كرّم الله ابن آدم فوهبه حقوقه الأصلية في الحياة والحرية والوعي والملكية والخصوصية. ونحن عند التأمل في هذه العناصر التي تشكل (الحرم الإنساني) تلوح لنا مقاصد الدين والأخلاق في حفظها. وعليه فينبغي ألا يتم اقتحام خصوصية الإنسان، ولا السطو على ممتلكاته، ولا التلاعب بوعيه، أو الاستهتار بحريته، فضلا عن النيل من حياته. بصرف النظر عن موقفنا من طريقته في التصرف بهذه الحقوق، وإلا لانقلبت العلاقة بين البشر إلى ما هو أسوأ من طبيعة الوحش والغاب. هذا هو أصل أصول الإنسانية، ولكن لأن كل أصل لا يحول دون طروء الاستثناءات عرفت البشرية (سلطة القانون). سلطة القانون هي المنفذ الاستثنائي الأمثل لتجاوز هذه الحقوق لصالح حفظها وليس انتهاكها في نهاية المطاف. لأن هدفها المفترض هو الوصول إلى أقرب صيغ احترام هذه الحقوق عدالة.
أنت تملك حرية تنقلك بسيارتك، وكذلك يملك غيرك حرية تنقله. عند أحد التقاطعات لا بد أن تصطدم حريتك بحرية كل من تصادفهم في ذلك التقاطع. قد يؤدي اشتباك الحريات إلى فقدان القدر الأكبر منها للجميع تقريبا. لذلك يكون الحل بواسطة إشارة المرور، حيث تكلفك فقدان جزء من حريتك في سبيل حصولك في النهاية على حرية أكبر في استعمال الطريق. عمل إشارة المرور يماثل ويمثل عمل القانون في المجتمعات. للبشر الحقوق الطبيعية ذاتها ولكنهم تقريبا يتصرفون بالطريقة ذاتها على الدوام، لذلك احتياجنا إلى القوانين غير قابل للانقطاع. فضيلة القوانين في تسخيرها لصالح صيانة الحقوق وعندما تعمل كاستثناء ينال منها في سبيل توسيع مساحاتها أخيرا. أما احترامنا لها فهو نابع من احترامنا لفكرة (الحق) واحترامنا لفكرة الحق منبثق من فهم (الكرامة الآدمية). هذا مختلف عن إحلال قيمة (القوة) مكان قيمة الحق وقدسية الحزب مكان عصمة الحرم الإنساني، حيث تتحول العلاقة بين الإنسان وأخيه إلى علاقة ترصد ومغالبة وانتهاك. علاقة ينظر فيها الجلاد إلى وجه الضحية مع عجز كامل عن قراءة ملامحه أو ترجمة أنينه. هذا ما لم يقله أحد للمطوع الصغير.