يعتبر الانتهاء من المرحلة الثانوية بعد دراسة مدرسية استمرت نحو 12 عاما في مقاعد التعليم المنتظم بمختلف مضامينه ونشاطاته المختلفة؛ إنجازا هاما يشعر به الطلاب وذووهم ويعيشون فرحته، لما يعنيه ذلك الانتقال من تحول لمرحلة دراسية وعمرية مختلفة تحمل في طياتها حقبة زمنية هامة يتحدد فيها مستقبلهم؛ وفيها انتقال معرفي من الأساس العلمي المبدئي والبنية التحتية الأولية لمخزونهم المعرفي، إلى مرحلة قادمة أكثر تخصصاً وعمقاً في مضمونها العلمي والتأهيلي، والتي من خلالها يتبلور دورهم في الحياة ويتحدد مكانهم الوظيفي والاجتماعي؛ غير أن تلك الفرحة وذلك الإنجاز سرعان ما يتقلصان وينكمشان، وقد يتبددان أمام العديد من التحديات والإشكالات والتساؤلات والقلق والحيرة التي تواجه خريجي الثانوية العامة، وتتمحور تلك التحديات بداية في النسبة العلمية، هل ستؤهله لاستكمال دراسته وتُمكنُه من التخصص الذي يتطلع إليه؟ وهل سيجد قبولاً في الجامعة التي يطمح إليها سواء في مدينته أو غيرها؟ وإذا لم يجد قبولاً في الجامعة فأين سيكون مصيره؟ وهل يعني ذلك أن ينتهي تعليمه عند المرحلة الثانوية؟ أم أن هناك بدائل متاحة من المعاهد والكليات التي يمكن أن تستوعبه وزملاءه في تخصصات مختلفة؟ وما هي التخصصات المتاحة التي يمكنه الالتحاق بها؟ وهل يمكنه الالتحاق بالجامعات الخاصة في حال عدم قبوله في الجامعات الحكومية؟! وهل هناك معاهد أو كليات متميزة متنوعة مناسبة تتبع القطاع الخاص ونظامية يمكن الالتحاق بها؟!
ومن جهة أخرى فإن هناك نوعا آخر من التحديات التي تواجه الطلاب، وهي صعوبة تحديد الطالب لطبيعة ميوله وتوجهه العلمي، وفي ماذا يتخصص؟ وما هو مضمون ذلك التخصص؟ وما هي آلية الدراسة فيه؟ وما هي المتطلبات المختلفة لذلك التخصص؟ وذلك في ظل التخصصات المتاحة في أدنى تقدير، وفي أحيان كثيرة تتضارب التساؤلات والحيرة والقلق ويتدخل الأهل في كثير من الأحيان في توجيه الطالب نحو تخصص معين يرون أنه الأنسب أو الأهم، وذلك في حال مكّنته نسبته من الاختيار، وإلا فإنه سيلتحق بالتخصص المتاح الذي يناسب نسبته وإن لم يكن أحد ميوله أو طموحاته، وتتضاعف التحديات ووتيرة القلق عند متابعته أو ملاحظته لواقع سوق العمل ومحدودية فرص العمل فيه، وما يتعلق به من إشكاليات مختلفة كارتفاع نسبة البطالة وارتفاع نسبة العمالة الوافدة التي تستأثر بالوظائف في القطاع الخاص، وذلك جميعه يجعله يعيش في هاجس آخر، ما هو مصيره في حالة استكمال تعليمه؟!.
وعلى الرغم من أهمية تلك المرحلة لكونها تمثل بداية اتخاذ القرار المستقبلي لتطلعات أبنائنا وبناتنا، ونقطة تحول ومرحلة حاسمة في حياتهم، إلى جانب أنها تمثل البداية الفعلية لبناء الموارد البشرية التي ستلتحق بسوق العمل وتكوين بنيته التحتية والمتخصصة، وما تحتاجه تلك المرحلة من تعريف للطلاب والطالبات مسبقاً عن طبيعة الدراسات المتاحة والتخصصات وما هو مضمونها ومجالات عملها، سواء كمخرجات جامعات أو كليات ومعاهد ديبلومات؛ فإنها وللأسف لا تحظى بعناية واهتمام تستحقه من مسؤولي التربية والتعليم من خلال تعريف الطلاب والطالبات بطبيعة المرحلة القادمة، وتحدياتها بما يقدمونه من توعية في شكل محاضرات توضيحية أو غير ذلك، بحيث يستطيعون منها استشراف ما هم قادمون عليه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن عدم التنسيق بين وزارة العمل ووزارة الخدمة المدنية من جانب ووزارة التعليم من جانب آخر يقلل من فرص الاستفادة من المخرجات باعتبارها المجال الذي سيحتوي تلك المخرجات.
وتتحدد مسؤوليات وزارة التعليم في توفير مقاعد تحتوي جميع خريجي الثانوية العامة في تخصصات مختلفة ومتباينة تتماشى مع الفروق الفردية في القدرات والميول، كما تتلاءم مع احتياجات سوق العمل من التخصصات المختلفة سواء كموظف في القطاع الخاص، أو من خلال ريادة الأعمال المطلوبة، وذلك من خلال توفير تلك التخصصات في كليات المجتمع والكليات التقنية الموجودة، وتطويرها بما يتناسب مع متطلبات التنمية ومع مستوياتها في العالم المتقدم والنامي الآخذ في التقدم، والتي تستقطب كلياتها معظم خريجي الثانوية العامة لتأهيلهم بما يخدم سوق العمل ويتيح الوظائف لهم.
أما الجامعات والتي تعاني من محدودية مقاعدها وأهمية ارتفاع النسب المقبولة فيها؛ وفي ضوء ما يجري من تنفيذ لسياسات تخفيض نسبة المقبولين إلى 50%، وذلك بناء على تصريح وزارة التعليم منذ عدة أشهر من جانب آخر، فإنها هي الأخرى (الجامعات) تحتاج إلى مراجعة مضمون تخصصاتها ومستواها العلمي والأكاديمي والخدمات التابعة لاستكمال ملحقات مضمون المقررات الدراسية من معامل ومختبرات ومستشفيات وغيرها، لتتمكن من تحقيق مخرجات متميزة ومتخصصة علميا وقادرة لأن تقوم بمهامها المطلوبة مستقبلا وتكون منافسة في سوق العمل.
والتساؤل المطروح لوزارة التعليم في ذات السياق، ما مدى إمكانية استفادة طلابنا وطالباتنا من الجامعات الخاصة المنشأة في ظل تجميد الابتعاث الداخلي وارتفاع رسوم الجامعات التي لا يستطيع معظم الطلاب تحمل تكاليفها؟! بل وما مصير تلك الجامعات الخاصة في حال شهدت عجزاً في تكاليفها ونفقاتها مع انحسار عدد الطلاب والطالبات فيها؟! وما هي الجهود وما نوع المنشآت التعليمية المتخصصة البديلة التي وفرتها وزارة التعليم لخريجي الثانوية الذين لم يتم قبولهم في الجامعات؛ أو لم يجدوا كذلك لهم مقاعد أو تخصصا مناسبا في الكليات المتاحة؟! خاصة بعد تخفيض نسبة القبول في الجامعات إلى 50%، والتي يترتب عليها ارتفاع نسبة من سيبحثون عن كليات أو جامعات أخرى تقبلهم؟!
ومن جهة أخرى فإنه نظراً لما يعانيه سوق العمل من إشكاليات وتحديات يتصدرها التوطين والتأهيل لمواردنا البشرية بما يتواءم ومتطلبات السوق، فإنه من خلال التنسيق والتعاون مع وزارة التعليم يمكن المساهمة في توجيه التخصصات المتاحة في كليات المجتمع والمعاهد والديبلومات، بما يخدم حاجات سوق العمل ومتطلبات التنمية، وبما يمُكِّن من تأهيل الكوادر البشرية المناسبة لطبيعة واقع سوق العمل، وبما يخدم إمكانية توفير موارد بشرية لتنويع القاعدة الاقتصادية المستهدفة في خطط التنمية ورؤية 2030.
ومما لا شك فيه أن التعاون المأمول بين وزارة التعليم ووزارة العمل والخدمة المدنية بل ووزارة الصحة والتخطيط كفيل بأن يعالج كثير من التحديات التي تواجه مخرجاتنا التعليمية، ومستوى تأهيل كوادرنا البشرية ومدى مواءمتها لحاجات سوق العمل ومتطلبات التنمية المستهدفة، وغير ذلك مما نواجهه من تحديات تعيق مسيرة التنمية وتحُد من إمكانية الاستفادة من مواردنا البشرية، وتقف حجر عثرة أمام تحقيق رؤيتنا الوطنية وتطلعاتنا المستقبلة.