ليس من المبالغة حقا القول بأن عددا كبيرا من أفراد مجتمعنا يرتهنون في وعيهم الكُلي إلى زمنين ماضويين، الأول هو زمن القرون الأولى لتاريخنا الإسلامي الجليل، والثاني هو زمن القرن الماضي لتاريخ الجزيرة العربية. أما الزمن الأول فهو -ولا شك- يمثل الفترة الذهبية للتاريخ الإسلامي العربي دينا ومنهجا.. علما ومعرفة، وفق زمنيته وشروطه التاريخية. والتعامل (الأمثل) مع ذلك التاريخ المزدهر يكون من خلال قراءة ظروف تاريخيته ومناسبات وقائعه ثم محاولة مقاربته -بفعل منهجي تأويلي جاد يرتكز على استخلاص الثيمات الأساسية التي جعلت ذلك التاريخ مزدهرا بكل تجلياته الدينية والمعرفية- لكي يتماهى بالضرورة مع نوازع العمل العلمي ومستجدات الواقع. أسلافنا الأجلاء كانوا -بالفعل- على درجة عالية من الإدراك الصحيح للوعي التاريخي ابتداء من سيد البشر، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في بيانه الرفيع: «أنتم أعلم بشؤون دنياكم» إلى الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في مروياته العظيمة حول صياغته الجليلة الواعية لعلاقات جديدة في أحكام الشريعة مناسبة للمقام واللحظة الحاضرة، هو الذي كان يقول بعدم إجبار الأبناء على العيش في زمن الآباء (لأن الأبناء خُلِقوا في زمن غير زمنكم). والأمثلة في ذلك السياق كثيرة ولا شك! دعوني أطرح لكم مثالا من موروثنا الأدبي المفعم بالإبداع والتوهّج، فحقيقة القيمة الموضوعية والفنية لقصائد النابغة وزهير وامرئ القيس، ثم جرير والفرزدق والمتنبي وأقرانهم بعد ذلك، لا يختلف على قيمتها كل متلقِ للإبداع الشعري. ولكن عندما نحاكي بحرفية صارمة هذه النماذج التاريخية مضمونا وشكلا، فإننا لن نكتسب تلك القيم المعرفية والجمالية التي كانت لنصوصهم بالتأكيد، ولكن عندما نكون صادقين -مثلهم- في التعبير عن عصرنا وذواتنا وإيقاعنا ورغباتنا وتطلعاتنا لخلق عناصر الدهشة والمغايرة، فإنا نرتسم خط الإبداع الحقيقي، لأننا نكون عندها قد حاكينا الأسرار.. الثيمات.. المنهجيات التي أفضت على تلك النماذج الخالدة، ولم نحاكِ النماذج ذاتها! أما الزمن الثاني الذي قنعنا به فهو الزمن الغابر لتاريخ الجزيرة العربية، مما جعل خطابنا الاجتماعي أسيرا لمفردات قبلية شعبية، تزدهر خلالها الحكايات الشعبية والأساطير المتخيلة وقصائد النبطية والنمطية، التي يتم فيها تمجيد فرسان القبيلة وأمجادها البطولية. وبالتأكيد.. فليس المقصود هو إلغاء الماضي/ التاريخ، فهو ساكن في الأنساغ القصية للوجدان الإنساني. وإنما المشكلة الحقيقية في حضور الماضي بدلالته الصريحة الأولى- ليشكل كل علاقات الحاضر. أيّ غياب (الوعي التاريخي) في حضرة الارتهان الدائم للتاريخ بلا وعي! إذ إن ذلك الوعي التاريخي يعني الاقتناع بماضوية الماضي وحضور الحاضر ومستقبلية المستقبل، بشكل بديهي وطبيعي وفلسفي على السواء. وإلغاء ذلك الوعي من لا وعينا الجمعي يؤكد ذلك التماهي التام مع الثبات الذي تصطبغ به مفردات الصحراء الساكنة، مع المنهج النصوصي الذي يعتمد النص الحرفي/ المباشر كمرجع أولي ونهائي وثابت للفهم، مع غياب قسري لشروط الواقع ومستجدات الحاضر الزمني. مع أن النص كمرجع للمعرفة ومصدر لها يكتسب فعاليته عن طريق الواقع الذي هو متحرك بطبيعته. ألم تكن حاضرتنا الإسلامية العربية في أوج ازدهارها حين كان النص الديني والمعرفي -كلاهما- مفتوحين على حركية الحياة؟ يستوعبانها وينطلقان بها في آن واحد. الحقيقة أنه لا بد لنا من وعي تاريخي يتحقق عن طريق إعادة تشكيل علاقة جديدة مع زمننا الماضوي تاريخا من خلال استحداث علاقة حتمية بين التاريخ والإنسان، حيث يكون الإنسان هو فاعل التاريخ، ودون إعطاء هذا الدور للإنسان فإن مجتمعنا سيبقى في أتون إجابات ماراثونية ماضوية جاهزة، لا يمكن تطبيق المناهج التعليمية والثقافية والعلمية عليها لتحويلها إلى مقولات طبيعية إنسانية، تسهم في تعزيز دور الإنسان في واقعه المتحقق. أحسب أن ذلك الفقد الكارثي للوعي التاريخي الحضاري داخل مجتمعنا يفضي إلى عدة نتائج، منها ما نلمسه جليا في واقعنا، وننطق به صراحة وضمنا أمام أنفسنا ومن حولنا، ولعل من أبرز تلك النتائج السلبية: غياب الإنسان/ الفرد في ظل الاهتمام الجارف بنموذج البطل.. ذلك البطل الساكن في أقصى خلايانا، في كل مجالات تعاطينا مع خطاباتنا السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية، ألم نبتهج بعبثية مضحكة من خلال وعينا البطولي بالرئيس الأميركي الجديد؟ غير مدركين.. بغياب ذلك الوعي التاريخي بأنه جزء من منظومة إنسانية مؤسساتية، لا تعبأ بالفرد/ البطل في صياغة خطابها السياسي والاجتماعي على السواء. ومن تلك النتائج المقيتة -كذلك- هيمنة الثقافة الشعبية وإعادة تكرار نسق النعرات القبلية المفضية إلى كثير من الصدامات الاجتماعية المتحكمة في تحديد معايير الكفاءة العملية داخل مؤسساتنا المتنوعة. أيضا فإن البقاء الدائم في اللحظة التاريخية الماضوية في غياب الوعي بتاريخية ذلك الماضي هو الذي يجعلنا دائما في أسر إشكالاتنا المستمرة حول عمل المرأة، والتاريخ الحقيقي لبداية الأشهر القمرية في مناسباتنا الدينية الجلية، وحريات النشر، ومشروعية الفعاليات الثقافية الفنية. ولعل ذلك الوعي التاريخي المفقود هو الذي أفضى بنا -اللحظة- إلى ثقافة جماعية تزخر بتناقض صارخ لخطاباتها الدينية والثقافية والاجتماعية والعلمية، مما أدى بدوره إلى تناقض داخلي مؤلم -حقا- يعيشه إنساننا بين ماضيه وحاضره.. بين بدويته ومدينته.. بين نصوصه وواقعه.. بين ذاته الحقيقية وأبطاله المتخيلين. ذلك التوتر النفسي الهائل الذي تصطلي في أتونه نيران ذواتنا المحترقة الحارقة هو الذي أنتج لنا ذلك العنف في التعاطي مع مستجدات وشواهد الحياة.. والذي يمارس -بكل صلف وجهل- على المفكر والمثقف والفنان والشاب والمرأة، وبقية الأطياف في نسيجنا الاجتماعي المتأزم بالفعل.