مهما بلغ البشر من تطور ومهما ملكت الدول من وسائل تقنية حديثة، فإن أحداً لا يستطيع منع حصول الكوارث الطبيعية، أو إيقاف وقوع أخطاء بشرية غير متعمدة أو متعمدة. وهكذا تنقل لنا نشرات الأخبار العديد من المصائب التي تحل بالبشر سواء أقاموا في دول متقدمة أو نامية. وتشمل الحرائق والزلازل والفيضانات والأعاصير وانهيار المباني أو الجسور أو مناجم الفحم، بالإضافة إلى حوادث السيارات والطائرات والسفن والقطارات. ولأن الوقاية خير من العلاج، تحاول الدول جاهدة أن تضع الأنظمة التي تمنع أو تقلل من نسبة حصول هذه المصائب، ولكنها في الوقت نفسه تستعد للتعامل معها في حال حصل المحذور.

قبل أسبوع مررت بتجمع سكني كبير في مدينتي، يضم عدداً من العمائر المكونة من عدة طوابق، والتي يحوي كل طابق منها على الأقل أربعة شقق، وأتوقع أن مجموع عدد سكانها لا يقل عن ألف ساكن (إن لم يكن أكثر من ضعف هذا العدد). بصراحة شعرتُ بانقباض وتخيلت لو حصل حريق لا سمح الله، كيف ستستطيع سيارات المطافئ والإسعاف الوصول إلى المتضررين في هذه الشوارع الضيقة؟ وعن مدى سهولة انتشار النار ما بين المباني المجاورة وشبه المتصلة ببعضها؟ مجرد التفكير بهذا الأمر أصابني بالقشعريرة.

بعدها ببضعة أيام وقع حريق برج (غرينفيل) في لندن، والذي أسفر عن كارثة إنسانية بكل معنى الكلمة. فعدد الضحايا كبير، مهما حاولت السلطات البريطانية التقليل من العدد. فسكان العمارة عددهم 600 شخص، ونظراً لكون عدد كبير منهم من المسلمين فيتوقع بأنه ربما كان لديهم زوار لتناول وجبة السحور، وقد تأكدت وفاة ما يقارب 60 شخصاً، ونجاة ما بين 75 - 100 شخص، بينما البقية في عداد المفقودين. مما يعني أننا نتحدث عن وفيات بالمئات، ولم تسمح حالة البناء حتى الآن لعمال الإطفاء بالدخول لكافة الشقق والتأكد من وجود جثث أخرى رغم مرور أكثر من أسبوع على الحادثة المؤلمة.

تأثرت كثيراً بالحادثة لعدة أسباب، فمن ناحية هذه لندن! مدينة أعشقها وسبق أن عشت وعملت فيها، وأعرف أحياءها وشوارعها وناسها. ومن ناحية ثانية، فالكثير من ضحاياها هم من المسلمين الذين فروا من أماكن النزاع ونيران القنابل في سورية والعراق وأفغانستان، ليلقوا مصرعهم في عاصمة الضباب.

صدمت كما غيري بالفشل الذريع في عمليات الإنقاذ. فحصول ذلك في بلد متطور وخامس أقوى اقتصاد في العالم مثل بريطانيا، وهو بلد مهووس بالأمن والسلامة، ويقتلك من كثرة ما يجرون في المدارس والجامعات وأماكن العمل تجارب الإخلاء، لهو أمر صادم بالفعل! ويجعلك تتساءل ماذا لو وقع مثل هذا الحريق في بلدان العالم الثالث حيث قوانين البناء أقل صرامة، وإمكانيات النجدة والإنقاذ أقل كفاءة؟ فالمشهد قد يكون أبشع والنجاة شبه مستحيلة.

ما تألمت له بشكل خاص، هو ما رواه شهود العيان والأهالي وغيرهم، عن الساعات التي ظل فيها الكثير من الضحايا محتجزين داخل شققهم في الطوابق العلوية وهم واعون لما يجري، ويشاهدون تصاعد ألسنة اللهب، وطلبهم النجدة باستماتة عبر هواتفهم المحمولة وعبر تلويحهم عبر النوافذ، وقد جاءهم الرد الرسمي بأن أبقوا حيث أنتم وستصلكم النجدة قريباً..لكنها لم تصل، وشاهد أحدهم عمه وهو يلوح له قبل أن تلتهم النيران شقته. آخرون أدركوا أنها ساعة النهاية فودعوا أهلهم قبل أن يفارقوا الحياة. الاستماع إلى تلك الشهادات أمر مؤلم وقابض للصدر بالفعل ولا يغادرك ذلك الإحساس بسهولة.

الشعب البريطاني، والذي لا يستسيغ سواده الأعظم أصلاً فكرة العمارات والشقق، ناهيك عن العمارات المرتفعة وناطحات السحاب، غاضب جداً مما جرى في برج غرينفيل (مكون من 24 طابق)، وتتعرض رئيسية الوزراء تيريزا ماي لحملة إعلامية شرسة تتهم حكومتها بالإهمال الذي أدى إلى وقوع الحادث ابتداء، ومن ثم التقاعس في التعامل معه بعد وقوعه. فحكومة حزب المحافظين التي تقود البلاد منذ منتصف 2010، أي منذ سبع سنوات، قد قامت بحزمة من الإجراءات التقشفية شملت تخفيض أعداد قوات الأمن والإغاثة وغيرها، وتخفيض ميزانيات هذه الأجهزة الحيوية في الدولة. فلم تكن لديهم المعدات التي تجعلهم يصلون إلى الطوابق العالية جداً، وبالرغم من أنه لم يمض على تولي ماي رئاسة الوزراء أكثر من سنة، إلا أنها تنتمي لنفس الحزب ومنصبها السابق كان وزيرة الداخلية. لذلك لم يكن غريباً أن يجابهها جمهور غاضب عند زيارة المنطقة صارخاً في وجهها:»قاتلة»!

كما أن اشتراطات السلامة، وهو أمر غريب في المملكة المتحدة، كانت دون المستوى في المبني، وقد اشتكى السكان من ذلك مراراً، واستغربوا أن يكون هذا وضعهم، وبنايتهم التعيسة هذه، والتي جل سكانها من المهاجرين واللاجئين والعمال والفقراء، تقع في واحدة من أرقى أحياء المدينة. ورغم رصد 10 ملايين جنيه إسترليني (ما يقارب 50 مليون ريال سعودي) لترميمه العام الماضي، فيبدو أن ثمة شبهة فساد، وذكرت تقارير عن استخدام مواد صينية سيئة لا تقاوم الاشتعال، كما يشترط في قوانين الاتحاد الأوروبي. وينتظر الجميع بفارغ الصبر انتهاء التحقيقات ومحاسبة المقصرين.

وبينما تلملم لندن جراحها، أخذت أفكر في الحوادث التي في منطقتي خلال السنوات الماضية: من أمطار جدة إلى حادثة الرافعة في الحرم المكي الشريف، ومن حوادث التدافع في رمي الجمار إلى حريق منى. فترحمت على الضحايا، وتساءلت عما حل بذويهم؟ وماذا تم من محاسبة للمسؤولين - إن وجدوا- عنها، وهل تعلمنا منها دروساً بحيث نمنع وقوعها؟ أو نقلل من وقوع ضحايا في حال حصلت من جديد؟

قد يوحي التطاول في البنيان الذي تتباهى به دول الخليج جميعها بالحضارة والتطور، وقد يمنحك ذلك المنظر الخلاب الذي سيدفع الناس لأجل مشاهدته، لكن كل ذلك يصبح بلا قيمة، بل يغدو بناؤها جريمة، إن كنت لا تملك القدرات الكافية للتعامل مع حادث يقع هناك قرب السحاب، فوسط لهيب النيران - لا سمح الله - ستبدو هذه المباني الجميلة وكأنها جبال في سقر، أعاذنا الله وإياكم منها.