كانت الشمس ترمي بخيوطها الذابلة الصفراء نحو المتر الأخير من رحلة نصف الدائرة في نهايات يوم صيام قائظ طويل. شفق رمادي شاحب لا يشبه إلا وجه «أبوزيدان» الذي كان مثل تفاحة مهجورة لشهر فوق صخرة جافة. هي مزرعة أهلي التي اخترتها للإفطار بعد ثلاثين سنة من الهجرة والغربة. ربما اخترتها رغبة في العودة إلى وجهه الذي لا يشبهه وجه صائم آخر في دائرة حياتي الضيقة القصيرة.
قبل الغروب، تكاد أن تشعل فيه عود كبريت ليختفي «أبوزيدان» في ظرف وقت أذان قصير. يصحو «أبوزيدان» لمعركة الحياة عند السادسة صباحا. حين قالها لي شعرت بقشعريرة مثل السم: هي بالضبط نفس الساعة التي أذهب فيها إلى السرير هاربا من تضحيات صائم. أبوزيدان يمني من شمال ذمار، حيث الوجوه في لحظة الفرح وقد قدت من حجر، فكيف تكون بعد خمس عشرة ساعة من الجوع الحقيقي والعطش. بالكاد يسمح له لسانه قبل الإفطار برد السلام. لسانه بين فكيه في تلك اللحظة مجرد قطعة من خشب.
الله أكبر، الله أكبر..... يصدح بها مؤذن القرية البعيدة وأنا أسابق الماء قبل أن يصل المؤذن إلى التكبيرة الرابعة. انتهى الأذان ولا زال «أبوزيدان» يتمتم بدعاء المؤمن الفقير المدقع في ساعة إجابة. كان قدر الماء أمامه يتراقص على الأرض شوقا إلى كبد ظامئة. يرفعه بوهن. يشربه رويدا رويدا حتى انتهت حافة القدر الأخرى بضربة إناء فارغ في أعلى عظم جبهته. يطيح بجسمه النحيل بعدها سادحا إلى الأرض في نصف غيبوبة وشبه إعياء. يلهج بالحمد والشكر وقد رمى صحن «الشفوت» البائت من البارحة بعيدا عنه ليبدأ لي معتذرا عن برودة الاستقبال.
قلت لنفسي وأنا أحتقرها كما لم أفعل من قبل: إنه جبروت وعظمة الإيمان منه في مقابل ضعفه وهوانه لدي.
لا شيء عندي من السلوى لهذا التناقض ما بين «عبدين» سوى أنني اخترت صحبة هذا، وحده، في لحظة إفطار. اخترته عنادا لهذه النفس وهي ترفض إجابة دعوة أحد الأثرياء أن أفطر معه. ناولته «فنجال» القهوة. شربها وهو يهم بشيء من دموع الذكريات التي كان يأبى لها أن تسيل على الوجنة. حتى دموع الفقراء، ومن شدة العفاف، تذهب في قناة سرية ما بين الأحداق والحلق. (آخر مرة شربتها صائما من يد «أم زيدان» كانت قبل رمضانات أربعة). كتب الله علينا الشقاء ولكنه، وله الحمد والشكر، اختار لنا أجرة هذا الشقاء ليعطينا في يوم الحشر، وهذا ما أنا واثق منه يا أبا مازن. يا إلهي: لم أسمع مثل هذه الجملة، وبمثل هذا الإيمان منذ خمسين سنة.