يتصدر التطرف والغلو والإرهاب قضايا المجتمع المؤثرة، لتعدد أبعاده وتشعب تأثيراته واختلاف توجهاته، بل إنه يشكل محورا أساسا من الاهتمامات السياسية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية، ليس على مستوى الوطن والمنطقة فحسب، وإنما على مستوى العالم أجمع، لما تتضمنه قضايا التطرف من تأصيل لمنهج فكري يشكل البذرة والنواة التي يتولد عنها الغلو والعنف والإرهاب، ويجري نشر التطرف والترويج له بين شرائح المجتمع المختلفة من خلال استقطابهم بوسائل متباينة وطرق مدروسة ومنهج مخطط يتم تحديثه بصفة مستمرة، بما يتلاءم مع تغيرات العصر وتقدم التقنية وظروف المجتمع؛ وذلك للتأثير على الفئات المستهدفة والتي يشكل الشباب جُلّها ومحورها، باعتبارهم الطاقة المشتعلة نشاطاً وحيوية، والوعاء العقلي الجاهز للشحن والتغذية بالأفكار والمستهدفات المقصود زراعتها وتوجيهها، وبما يخدم توجهات عقول منحرفة وتحقيق أهداف هدامة وتجسيد رؤى تتولى وضع تلك الخطط والاستراتيجيات الهدامة، من خلال أفراد وشخصيات مختلفة، والتي تجد في الشباب الثروة الفاعلة الثمينة والأمل المستقبلي والصفحة البيضاء التي يسهل اللعب فيها بما يمكن تشكيلها وصناعتها، لبلورة أهداف مقصودة وتطلعات مرسومة وفق خطط مدسوسة تُحارب القيم والمبادئ المجتمعية المتعارف عليها، وتُهدد الأمن والاستقرار الوطني، وتزعزع التآلف والمودة الموروثة في البنية المجتمعية للنسيج البشري الوطني.
ولما كان التطرف يعني الابتعاد عن الوسطية والاعتدال فهو آفة ووباء فكري عانت منه الأمم في مختلف العصور، ولا تزال تعاني وتعيش في نكباته وإفرازاته، ويتعاضد كل من التطرف والغلو والإرهاب في منظومة متكاملة متوالية، تتمدد وتنكمش تبعاً لطبيعة المناخ المجتمعي السائد والظروف السياسية والاقتصادية المسيطرة على الواقع المجتمعي، ولعل من أوضح سماتها التآكل والتحلل في العلاقات المجتمعية، وما ينجم عنها من وهن وضعف واضطراب ومشاكل تهدد نسيج الأسرة والُلحمة الوطنية وأمن الدولة وتنميتها، بالإضافة إلى امتداد أبعاده للتأثير على مجريات الأحداث والسياسات في المجتمع الدولي.
وحيث إن الفكر الإسلامي يمر اليوم بمرحلة حرجة تستدعي مواجهة ذلك التطرف الفكري الممنهج لا سيما في خطابنا الديني والتربوي، فإن ذلك يتطلب توظيف أفضل الدراسات العلمية والبحوث المتخصصة لفهم طبيعة الظاهرة وأسباب تكوينها ووجودها والعوامل الفاعلة في ترويجها للتصدي لها ومعالجتها بالوسائل والآليات المناسبة، وذلك يتطلب مراجعة جميع المعطيات والظروف المرتبطة بالواقع الذي نعيشه بجميع مضامينه المؤثرة، سواء ما يتعلق منها بالظروف الأسرية وما يحيط بها من عوامل داعمة ومحفزة لذلك التطرف الفكري، أو المناهج التعليمية وما تتضمنه من أفكار ومعلومات متشددة لمحتوى ديني يتميز بالتسامح واليسر في أصوله المنزلة والسعة في تفسيراته النبوية، وما يلحق بذلك من تفاصيل لأمور دينية معقدة لا تخدم المتعلم في شيء من مخزونه الفكري والديني والاجتماعي، ويستثنى من ذلك أولئك المتخصصون في علوم الشريعة الإسلامية باختلاف فروعها، هذا إلى جانب ما يتنافس فيه المعلمون والمعلمات وأساتذة الجامعات في طرح وتسريب قناعاتهم الشخصية في أمور دينية ومجتمعية تدعو إلى التشدد والتطرف عند الطلاب والطالبات وذلك في أضيق صوره، والذي قد يمتد لتشكيل جماعات وأحزاب متطرفة فكرياً ودينياً تعمل على بث الفرقة والتكفير والعدوانية، وتحارب الوسطية والاعتدال والتسامح المجتمعي والسمو الإنساني الذي يتميز به الدين الإسلامي وما يدعو إليه في عقيدته ومبادئه وسلوكياته وعباداته. ومن جهة أخرى فإن المجتمع يلعب دوراً هاماً في تشكيل القيم وبناء المبادئ والأخلاق والتأثير على الأفراد في توجهاتهم الفكرية والدينية والسلوكية، وذلك من خلال الدعاة في ملتقياتهم المختلفة، والأئمة في خطبهم، وحلقات الدروس في المساجد، والمنابر الثقافية والمنتديات المختلفة سواء القائمة أو الإلكترونية، والتي يمكن عبرها تمرير الكثير من الأفكار والمغالطات التشريعية والفكرية المتطرفة، والتي تؤسس لجيل حاضر وقادم يؤمن بذات الأفكار ويعتقد بالتشدد والتطرف منهجاً، وفي الحقيقة إن الخطر لا يكمن في وجود أفراد متطرفين دينياً وفكرياً في المجتمع، فتلك ظاهرة لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات، وإنما يكمن الخطر الأكبر في تأصيل هذا الفكر المتطرف وانتشاره واتساع دائرته ومداه ليكون ثقافة مجتمع تفرض وجودها بقوة وتتغلغل في كافة مناشط الحياة ومؤسسات الدولة، لترسم توجهاتها الفكرية والدينية المتطرفة على كافة المخرجات والسياسات والإجراءات التابعة لها، لتصبغها بصبغة متفردة انعزالية تكون شاذة أحياناً وتقف حجر عثرة أمام مسيرة التنمية والبناء الوطني والاستقرار المجتمعي، وذلك يكون بعيداً عما هو سائد في مجتمعات أخرى تمكنت من تحجيم تأثير تلك الفئات وضبط تحركاتها وتقنين انتشارها وفق معايير وتشريعات حاكمة لها.
ويتضمن التطرف في مذهبه الفكري الاصطلاحي الغلو والتنطع في قضايا الشرع، والانحراف المتشدد في قضايا الواقع والحياة، وهو يسعى إلى انتهاج موقف عدائي تجاه النظام القائم المجتمعي وغيره، ويعمل على تغيير جذري وعنيف للنظام القائم أياً كان نوعه، فهو في جوهره حركة في اتجاه القاعدة الاجتماعية أو الأخلاقية أو الدينية تتجاوز المدى الذي ارتضاه المجتمع، ويفسره البعض بأنه الشطط في فهم مذهب أو مُعتقد أو فلسفة أو فِكر، هذا ويتطور التطرف إلى غلو وتعصب حاكم لسلوك الجماعة التي تتصف به أو تؤمن بفلسفته، مما يدفعها إلى محاولة فرض هذا الفهم والتوجه على الآخر بكل الوسائل ومنها العنف والإكراه بشتى صورهما، وذلك لأن التطرف ينطلق من نظرة تنزيهية للذات بجميع مضمونها الفكري والعِرقي والعقدي من جانب وسوداوية وعدائية للآخر، وذلك ينسحب على جميع الأفراد والمجتمعات وما يتعلق بهم من شؤون الحياة والمؤسسات والأعمال التي ينتمون إليها، وبذلك يكون الإرهاب من إفرازات التطرف وتداعياته.
وحيث إن الإرهاب ظاهرة عالمية قديمة ومتجددة لا تنتمي لدين ولا وطن فهو عمل إجرامي يتناقض مع مبادئ ديننا الإسلامي وقيمنا وموروثنا الحضاري، لما فيه من قتل النفس وترويع الآمنين وإهلاك الحرث والنسل؛ فإن التحصين والوقاية منه أهم من العلاج، ويكون بتحصين جميع أفراد المجتمع من الانزلاق في مهاوي الانحراف الفكري والعقدي الذي يؤدي إلى التطرف والإرهاب، ويشمل التحصين بدايةً الطلاب والطالبات في مختلف مستوياتهم التعليمية من خلال إعادة هيكلة مضمون المناهج الدينية والاجتماعية والفكرية، ووضع ضوابط وحدود لكثير من الممارسات الخاطئة والمنحرفة لمن يمثلون قادة الفكر ومصدر نشر المعلومات وزرعها في العقول، سواء في المؤسسات التعليمية أو مختلف مجالات المجتمع التي تمثل منبراً ومرجعاً فكرياً ودينياً.
ومما يجدر التنويه إليه أن محاربة التطرف تكمن في كونه البيئة الحاضنة للإرهاب، وإن الوقاية منه لا تتحقق بتقليص مساحات الحرية المنطقية وانتهاك حقوق الإنسان أو تفتيت الوحدة الوطنية والتضييق على النشاطات المدنية وتجفيف منابع الإنتاج الفكري المبدع أو النشاط الدعوي الديني المعتدل، وإنما بمنح مساحة أكبر من الحريات الواعية المفكرة الناضجة والمبدعة والمنضبطة بالقوانين والقيم التي يرتضيها الدين والمجتمع؛ ويتم ذلك بتعاون وتعاضد كافة المؤسسات والأفراد من منطلق المسؤولية المجتمعية والوطنية لمواجهة الفكر المتطرف والتصدي له قبل أن يُولد ويصبح مشروعاً فكرياً وثقافة مجتمعية، تفرض نفسها وتحارب من يحد منها، كما أن التمسك الحقيقي بالدين لا يكون بالتطرف والانحراف والتشدد، وإنما بالعودة إلى الكتاب والسنة وما يتضمنانه من الاعتدال والتسامح والرأفة والرحمة بالناس والتعايش مع المخالف ونبذ التشدد والغلو مع الآخر، بل وضمان الأمن والاستقرار والسلام لعموم أفراد المجتمع على اختلاف دياناتهم وأصولهم.