هذا المقال محاولة لتحليل معضلة فكرية وسياسية تواجهها كل دول الشرق الأوسط وبدرجة أشد السعودية وباقي دول الخليج. المعضلة يمكن تلخيصها في التالي: الدول الحديثة في الشرق الأوسط نشأت وتأسست في العصر الحديث وولدت معها أيديولوجيات ترى فيها دولا شكلية بل وحتى دولا غير شرعية. بمعنى أن الدول الحديثة في الشرق الأوسط نشأت ونشأ معها فكر مقاوم لها ومعارض لاستمرارها وإن قبل بها كواقع وفقط كحل مؤقت. الأيديولوجيات التي أتحدث عنها هي الأيديولوجيا الدينية المؤمنة بدولة الخلافة الإسلامية ومن أهم ممثليها الإخوان المسلمين وكذا الحركات الإسلامية المسلحة وكذلك الأيديولوجيات العروبية التي تؤمن بدولة العرب الواحدة وممثلها تاريخيا التيار الناصري والتيار البعثي.
السردية المشتركة عند تلك التيارات الفكرية أن الدول الحديثة، دول الخليج من ضمنها والسعودية على رأسها، ليست سوى نتيجة لتقسيمات المستعمر المحتل فيما يعرف باتفاقية سايكس بيكو. بل إن هذه الدول واستمرارها يعتبر دليلا وعلامة على نجاح مشروع التقسيم وضياع الحلم الكبير في دولة الأمة الواحدة. هذه السرديات تتجاهل التاريخ الداخلي لتأسيس هذه الدول وعن علاقة هذه الدول بحياة الناس الساكنين فيها. بشكل أكثر وضوحا لعلنا هنا نقارن بين حكايتين عن ذات الحدث: بالنسبة لكثير من مواطني الخليج، كان نشوء الدول الخليجية الحالية في نسخها الحديثة علامة نجاح وخير. أي أنه توافق مع هذه الدول مستويات أعلى من الأمان والرفاهية والتعليم والاستقرار والرعاية الصحية.. إلخ. في المقابل الحكاية الأخرى التي تتبناها الأيديولوجيات الأممية أن نشوء هذه الدول كان علامة وشاهدا على الهزيمة والفشل والتفكك والتشرذم. الداعية الأممي ضخ على المواطن الخليجي ولعقود من الزمن ولا يزال وأحيانا ضمن قنوات إعلامية خليجية أن هذه الدولة التي يعيش فيها وينتمي لها ليست إلا مرحلة مؤقتة يجب أن نتجاوزها لتحقيق أحلام وأهداف هذا الداعية.
لا بد هنا من التأكيد على أن الأيديولوجيات الأممية أعلاه لا تعارض السعودية ودول الخليج الباقية بسبب طبيعة الحكم فيها، بل بسبب وجودها أصلا. هذا يعني أنه مهما كانت طبيعة الحكم في الدول الخليجية فإن الأيديولوجيات الأممية ستبقى معارضة لها إلا إذا عملت ضمن المشروع الأممي. هذا يعني أن الدول الخليجية لو أصبحت ديموقراطيات تضارع نظائرها الأوروبية والأميركية ولم تتحرك لتحقيق مشروع الأمة فإنها ستلاقي ذات العداء الذي تلاقيه الأيديولوجيات الأممية حاليا.
الذي يحدث بسبب هذه الحالة بين دول الخليج وبين التيارات الأممية أنه يتم التعامل مع الشعوب الخليجية ومنها الشعب السعودية على أنها وسيلة لتحقيق غاية أكبر لدى تلك التيارات. هذه الشعوب يمكن التضحية بها من أجل الحلم الكبير. سمعنا كثيرا عن الدعاة الأمميين الذين يرحبون بموت الكثير من الشباب في سبيل تحقيق الحلم الذي غالبا لا يشاركون هم أنفسهم في تحقيقه. التعامل مع البشر على أنهم وسائل لتحقيق أهدافك يهدم الأساس الأخلاقي الذي يمكن أن يربط البشر. التعامل مع الآخر كوسيلة لغاية أكبر يعني أن هذا الآخر ليس إلا موضوعا للاستعمال ولا يمتلك قيمة ذاتية خارج مشاريع الذات. لذا جعل الفيلسوف إيمانويل كانت هذا المبدأ أحد أساسات الأخلاق البشرية «لا تعامل ذاتك ولا غيرك كمجرد وسائل بل كغايات في ذاتها».
الصراع الحقيقي بين السعودية وباقي دول الخليج وبين الأفكار الأممية ليس فقط صراعا فكريا، بل تحقق عملي على الأرض في أعمال عنف متكررة. دول الخليج وأعني بها هنا تحديدا الكويت والسعودية، تعرضت للغزو والاحتلال من الحزب العروبي الأممي حزب البعث العراقي في 1990. هذا الغزو والاحتلال وجد قبولا وتشجيعا لدى المؤمنين بالمشروع الكبير، مشروع الأمة العربية التي تتحد في دولة واحدة ثم تحارب إسرائيل. لم تكن مفارقة أن تكون الكويت والسعودية هي «بوابة» إسرائيل بالنسبة للبعث العراقي بل هي متأسسة في فكرة أن دول الخليج ليست إلا نتيجة للنظام الذي أنشأ إسرائيل أساسا. التيار الثاني كذلك قاد ولا يزال يقود أعمال عنف في السعودية تمثل في التفجيرات وقتل الأبرياء. السعودية بالنسبة للتيارات الإسلامية المسلحة هي بوابة انهيار النظام العالمي مما سيفتح أمامها إمكان تحقيق الحلم الكبير/حلم الخلافة.
الصراع الفكري والعملي الذي تواجهه شعوب الخليج من قبل الأيديولوجيات الأممية صراع حقيقي يلامس الحياة المباشرة لملايين المواطنين. ملايين البشر في الخليج لا يبدون في تحليلات كثير من الدعاة الأمميين إلا وسائل لتحقيق أحلام وأفكار أولئك الدعاة. من المهم جدا العودة للمنطق المباشر للمواطن في دول الخليج. المنطق هذا يقول: الدولة التي أعيش فيها ليست صنيعة خارجية وليست علامة هزيمة وليست مرحلة في طريق حلم غيري، بل تعبير عن حياتي وحياة مجتمعي وضرورة للسلام الأهلي وللرفاهية والتقدم. هذا المنطق يرفض استعمال الشعوب لتحقيق أجندات أممية. هذا المنطق كذلك يدرك أن دول الخليج مثلها مثل دول العالم يجب أن تتحرك باستمرار باتجاه المزيد من الإصلاح والتطوير لمنظومات الحقوق الداخلية. هذا الإصلاح هدفه المواطن وحياته الكريمة وليس هدفه الإعداد لمعركة المستقبل كما تدعي التيارات الأممية. المنطق المباشر للمواطن يرفض التعامل معه كرصاصة في معركة يؤمن بها غيره.