حضارتنا الإسلامية العربية ازدهرت في القرنين الرابع والخامس الهجريين، عندما كان الخطاب المهيمن، هو خطاب العقل والثقافة، الذي لم يجد غضاضة في التفاعل مع الخطابات الثقافية الأخرى،إذ كانت الثقافة العربية الإسلامية آنذاك مشرعة نوافذها الباذخة لاستقبال شتى الثقافات في ذلك العصر يونانية وفارسية وهندية.
ومن بعد كان خطاب العلم والثقافة وهو الذي نقل الأوروبيين من عصور الظلام (التي كانت نهبا لسلطة كهان الكنائس وطقوسهم واستعبادهم) إلى عصور الحضارة والازدهار.
وبالتالي، فإن خطاب المثقفين والعلماء (بالمعنى الشمولي) هو الذي يعول عليه كثيرا في نهضة الأمم وازدهارها وبلوغ حضارتها.. إذا ما اتفقنا على أن المثقفين هم ذاتهم الذين نهضوا بالحضارة الإسلامية العربية، ثم الثقافة الأوروبية الغربية، من الذين يحتفون بنداءات العقل والعلم، ويحملون آراء خاصة للكون والإنسان والحياة، ويقفون موقف المخالفة لقوى الظلام والخرافة، وموقف التنديد إزاء ما يتعرض له أفراد وجماعات من ظلم وتعسف من السلطات بتجلياتها المتنوعة! والمثقفون-هؤلاء-كانوا بمثابة النقاد الاجتماعيين، الذين يعملون على تجاوز عوائق النظام الاجتماعي، من أجل تحقيق مبادئ الحرية والعدل والمساواة لكل فرد من أفراد المجتمع.. فهم أداة العقل، وسلاح الحضارة، وضمير الأمة.
وهم الذين حققوا في خطاباتهم شواهد الموضوعية والاتزان، والبعد عن مشاهد الغلو والتطرف وإعمال الرأي الواحد، والقيمة الواحدة.
الخطاب المنبثق عن عقول هؤلاء هو السبيل الأوحد لبلوغ مشارف الحضارة، والقيام بالخلافة المستحقة التي أكرم الله بها عباده على الأرض.
بالتأكيد فإن حضارة العرب الإسلامية، قد سجلت بأسماء هؤلاء النماذج العظيمة.. ابن رشد.. ابن سينا.. الغزالي.. الفارابي.. الكندي.. التوحيدي.. الجاحظ، وبقية أقرانهم الأفذاذ.
الآن، ونحن نعيش عصر الضعف والانحطاط، أليس حري بنا أن نجرب الوسائل ذاتها، التي جربها أسلافنا، ففتح لهم التاريخ أبوابه كلها.. خاصة أن نهضة كانت ستتم وتحقق أهدافها في القرن التاسع عشر الميلادي، لو أنها خلصت من شوائبها، وتخلصت من عوائقها، وأخلصت في سبيل إثبات أهدافها.
وإذا ما اقتصرنا آنئذ على الواقع المحلي، ومقاربة تداعياته الفكرية، نجد المشهد البائس يتكرر بحذافيره، ما دام أن المعطيات بقيت كما هي: «خوف ووجل وبعد عن منابع العلم والثقافة».. في مقابل «الاستسلام لهيمنة خطابات أخرى، دينية حاولت أن تتخذ من الدين وسيلة لتحقيق غاياتها السلطوية، أو عرقية حاولت تحقيق الغايات ذاتها بالاتكاء على الإثنيات والأجناس والطبقات والطوائف».
وإثبات تلك الرؤية واضح، لا جدال فيه.. برؤية المشهد واقعيا حقيقيا كالتالي: غياب بائن فاضح لخطاب المثقفين والعلماء (بالمعنى الشمولي، وليس المعنى الذي حاولت بعض الخطابات اختزاله في مفهوم علمي تشريعي وحيد)! من هم قادة المجتمع الآن؟ هل للمثقفين حظوة لدى المجتمع بشكل عام؟ هل يطلق لقب (عالم) باحتفاء واطمئنان على طبيب (منا) قضى عمره كله في المختبرات والمعامل، من أجل اكتشاف مصل جديد لعلاج أحد الأمراض المستعصية. بقوانين العلم والمعرفة، وهي في أدق تفاصيلها واستحقاقاتها، ومن جهة أخرى؟ كيف ينظر معظم أفراد المجتمع للمثقفين في بلادنا..؟ أليست النظرة لهم تختلط بألوان الريبة والشك، وتصنفهم إلحاديين مرة وليبراليين مرة أخرى، وعلمانيين في مرات كثيرة.
ماذا يقول الناس في مجتمعي عن الغذامي والسريحي والدميني والبازعي والعلي والمزيني ورجاء عالم وعبده خال؟ هل يعرفون بعض هؤلاء (أصلا)؟ وهل يعرفون العلماء الأجلاء (الآخرين) في شتى العلوم والمعارف؟! من هم النجوم في مجتمعي الذين تفرد لهم الصفحات، وتجمل من أجلهم (أستديوهات) القنوات الاتصالية الفضائية المختلفة؟من هم الذين يشار إليهم بالبنان، ويتبعم المريدون بالملايين؟ وما دام ذلك.. كذلك.. فسيبقى الحال (كما هو)..
لا نهضة.. لا حضارة.. لا فن... لا (شيء) على الإطلاق!!