خلال نصف قرن من الزمن راجت في الأدبيات السياسية والخطاب السياسي العربي رزمة مفاهيم خاطئة وخرافات، منها: خرافة اللغة الخشبيّة التي تطمس حقائق الحياة، بل وتقلبها رأساً على عقب. ووفق هذه الخرافة تصبح المبادئ أحلام يقظة وأحياناً نمطاً من الرجعية، والتمسك بها أو بأهدابها تزمتاً وتطرفاً وربما راديكالية دونكشوتية.
وتحولت شعارات ومفردات مثل: الثورة والانتفاضة والنضال والإيديولوجيا والاستراتيجية والتكتيك والتحرير والحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية، إلى مفردات لخطاب خشبي أو متخشب لا يصلح لمجاراة عصر الأنفوميديا والهاي تك، وهو خطاب ربما يتبرأ منه الحرافيش ناهيك عن الشطار والعيارين. وأسبغت على من عاد إلى طائفته ومذهبه، وعشيرته صفات النبل والفروسية، بينما هو في حقيقة الأمر ضحية وحطب ووقود لنيران فتن وحروب طائفية ومذهبية.
وتفيد الخرافة الثانية أن العرب هم ظاهرة صوتية فقط، ولا يميزون بين السياسة والملاحم الشعرية، وعاطفيون أو سذج أو بلهاء يسارعون إلى التغني بانتصارات واهية وثورات وهمية، ويقدسون قادة ويعدونهم آلهة أو أنصاف آلهة أو فراعنة جددا. وتستهويهم حالة العبودية لحاكم مستبد عادل أو لدكتاتور يسوس شعبه كالقطيع وبالحديد والنار لأن شعبه أهل شقاق ونفاق غير مؤهلين لممارسة الديمقراطية، وبالتالي يعد فرض الوصاية على عقولهم ودب الرعب في قلوبهم هو السبيل الوحيد لديمومة وتأبيد استقرار الحكم.
ويسوق دعاة هذه الخرافة أمثلة لتأكيد مزاعمهم من طراز القول إن رزمة الانقلابات العسكرية في خمسينات وستينات القرن الماضي، كانت نتاج مؤامرات وتنفيذاً لأجندات خارجية. والثورات كالقطط أكلت أبناءها واستبدلت القصور الملكية بالقصور الجمهورية في مصر والعراق على سبيل المثال. فالساداتية خلفت الناصرية، وبددت إنجازاتها تحت شعاري السلام والانفتاح الاقتصادي. فكان أمراً طبيعياً ما آلت إليه الأوضاع في مصر في عهد مبارك.
وفي العراق، شكل صعود وهبوط البعث في ظل قيادته «التاريخية» وقائد «قادسية العرب» و«أم المعارك» وصولاً إلى دعوات اجتثاثه مساراً حتمياً للوصول إلى محطة المحاصصة الطائفية وديمقراطية الرمال المتحركة.
وسوق الإسرائيليون الأكاذيب السياسية التالية: «كذبة الدولتين»؛ كذبة «إسرائيل تريد السلام»؛ كذبة «النكبة اليهودية»؛ كذبة «الجيش الإسرائيلي لا يُقهر»؛ كذبة «طهارة السلاح»؛ «العالم كله ضد اليهود وإسرائيل» وكذبة «نحن لن نسامح العرب لأنهم اضطروا أبناءنا كي يقتلوهم».
أما الأكاذيب العربية التي أطلقتها الأنظمة العسكرية الراديكالية التي أعقبت ثورة 23 يوليو 1952، و«انتصار» جمال عبدالناصر في 1956 في «حرب السويس» وانقلاب عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف في العراق عام 1958، ثم بانقلابي حزب «البعث» في العراق وسورية عام 1963. وقيام الوحدة المصرية- السورية و«الجمهورية العربية المتحدة» في 1958. وزعمت قياداتها أن مبرر وجودها هو الرد على هزيمة 1948. وكانت هزيمتها أفدح من هزيمة الأنظمة التي ظهرت في أعقاب موجة الاستقلالات. لأن الصوت الإيديولوجي الناصري، وخصوصاً البعثي، كان مرتفعاً جداً، وكذلك الإفراط في منح الجماهير الكبيرة بإنجاز ثالوث التحرير والوحدة والاشتراكية عاجلاً أم آجلاً. والتغني بحرب الشعب طويلة الأمد و«الحرب الخاطفة».
لقد كشفت نتائج الحرب عن رزمة الشعارات الكاذبة والأخبار الكاذبة والأكاذيب والإشاعات التي بثتها إذاعة صوت العرب من القاهرة، وعلى نحو خاص تلك التي أطلقها المذيع الشهير أحمد سعيد الذي اتهم بأنه أعلن انتصار الجيش المصري في حرب 1967. ونقل عبر إذاعة صوت العرب بيانات عسكرية منسوبة لمصادر عسكرية في الجيش المصري تخبر عن انتصار ساحق لمصر وعن إسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية. لكنه قال في مقابلة بخصوص هذا الموضوع: «لا تستطيع أي صحيفة أو إذاعة أو قناة تلفزيونية عندما يأتي إليها بيان من أي وزير في الدولة وهي في حالة حرب أن تمتنع عن نشره».
وتمثلت الكذبة الكبرى في شعار «إزالة آثار العدوان» الذي صكّه عبدالناصر في الرسالة التي وجهها إلى مجلس الأمة المصري يوم 10 يونيو 1967، يبلغه فيها بأنه استجابة لإرادة الشعب المصري، والشعوب العربية، التي خرجت جماهيرها في اليوم السابق، ترفض قراره بالتنحي عن رئاسة الجمهورية، قرر أن يبقى في مكانه، إلى أن تتم إزالة آثار العدوان.. فيعود أمر رئاسة الجمهورية إلى الشعب. وأضاف عبدالناصر شعارين آخرين هما: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» و«ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة». بينما أطلق خلفه السادات كذبة «أوراق الحل بيد أميركا».
وثمة مفهومان أنتجا سياسات عربية بائسة عبرا عن جاهلية سياسية، زعم أنصار المفهوم الأول، أن السياسة هي فن الكذب واللعب على الحبال والشطارة على خلفية الاعتقاد أن تلك هي متطلبات السياسة البراغماتية، في حين أنها في واقع الحال متطلبات السياسة الانتهازية التبريرية التي لا تستند إلى معايير أخلاقية وقيمية، ولا تعكس في أي حال من الأحوال إرادة ومصالح الدول والمجتمعات. وتجاهل حقيقة تفيد أن دروب السياسة شديدة الوعورة، ويتطلب السير فيها أنماطاً من الحنكة والحكمة والدهاء. وأن السياسة في مستوييها الداخلي والخارجي هي تعبير مكثف عن الاقتصاد، وهي في الوقت نفسه، علم له قوانينه وفن تحقيق الهدف أو الأهداف الممكن في لحظة محددة دون التخلي عن الاستراتيجية العامة تحت وطأة الخلط بين الخيارات والبدائل.
وتمثل المفهوم الثاني في المبدأ المكيافيللي التالي: «عدو عدوي هو صديقي» الذي يستخدم لتبرير تحالفات لا تلتزم أسساً ومبادئ، وتتجاوز الخطوط الحمراء التي لا ينبغي تجاوزها في أقسى الظروف. وتحاول إسرائيل تطبيق هذا المبدأ في مجالها الإقليمي، لكن من العبث السياسي استعماله من أي قوة أو دولة عربية، إذ إن عدو عدوي ليس صديقي بالضرورة، وتحديداً لدى وجود أكثر من عدو. ومن الحكمة السياسية تحديد درجة خطورة كل عدو في مرحلة محددة. أما تحويل العدو إلى صديق تلبية لمتطلبات سياسة انتهازية فيعد حماقة سياسية بلا حدود.
إجمالاً، ثمة جاهلية سياسية قوامها خرافات وأكاذيب ومفاهيم سياسية فاسدة، أنتجتها نكسة عام 1967 تُنذر بنكسات قادمة. وينبغي تفكيك هذه الجاهلية السياسية باتباع سياسات ذكية قوامها إدارة الصراعات بكفاءة وتلبية المتطلبات التي تفرضها استحقاقات سياسية واجتماعية واقتصادية بمرونة لا تصل إلى حدود التفريط بالحاضر والمستقبل معاً.