تردّدت كثيرا في الكتابة عن التطورات الخليجية الأخيرة على قاعدة «أهل مكة أدرى بشعابها»، واحتراما للخصوصيات الخليجية وثقتي بقدرتهم على استيعاب هذه الموجة الجديدة من التحولات السياسية العميقة والاستراتيجية، مع مصادفة وجودي في الخليج خلال ظهور هذه الأزمة، وما لمسته من تأثر عميق لدى كل الذين قابلتهم، إذ إنهم يشعرون بشيء من الحزن والأسف لما وصلت إليه الأمور داخل منظومة مجلس التعاون الخليجي.
حاولت أن أشرح على طريقة أهل المشرق المشبعين بالأزمات والحروب والمصائب، لكنّني وجدت أن الجميع يعتبرون أنّ ما حدث هو أمر مزعج ومقلق، لأن متابعتنا للتطورات الخليجية من المشرق العربي تختلف كثيرا عن متابعتها من دول الخليج، إذ إننا في المشرق كنّا نشاهد هذا التمايز بالسياسات والأدوار بين الدول الخليجية عامة وبين الأدوار القطرية في المنطقة وعلى كل المستويات. وقد بدا ذلك بوضوح بعد تشكيل ما عرف بدول الآستانة حول الأزمة السورية والتي اعتبرت بمثابة تحالف إيراني- تركي- وقطري ضمنا.
العالم بأسره يتابع التحولات التي تحدث في دول الخليج العربي لمدى تأثيرها على الاقتصادات العالمية بما هي إحدى أهم مصادر الطاقة، بالإضافة إلى حجم الاستثمارات الدولية والخليجية، والأهمّ من ذلك أن دول الجزيرة العربية والخليج هي قلب العالمين الإسلامي والعربي وكل ما تبقى من دول الاستقرار العربي. والمتابعون للتحولات الدولية والإقليمية الناتجة عن اجتماع خمسة وخمسين دولة عربية وإسلامية في الرياض يجدون أن هذه القمة شكلت بداية انتظام دولي إقليمي عربي إسلامي جديد لجهة تحديد الأولويات، وفي مقدمتها مواجهة التدخلات الإيرانية في الشؤون العربية، بالإضافة إلى الحرب على الإرهاب، وإنهاء أزمات دول النزاع العربي في اليمن وليبيا وسورية والعراق، هذا بالإضافة إلى إطلاق مركز محاربة التطرّف العنيف في الرياض «اعتدال».
إن هذا التحول الخليجي هو عملية خروج من التشتت السياسي والدخول في مرحلة الانتظام. ذلك التشتت الذي شجّع إيران على التدخل والعبث في البحرين واليمن، مستفيدة من بعض التمايز لدى دول خليجية ومنها قطر وغيرها، وما ترتب من سياسات الفوضى الخلاقة الأميركية السابقة من تشتت وتداعيات بعد ما سمي بالربيع العربي، والتي لا تزال ترمي بظلالها على العديد من الدول العربية من مصر إلى ليبيا وتونس، بالإضافة إلى سورية ولبنان والعراق واليمن. ولا بدّ من الاعتراف لبعض دول مجلس التعاون الخليجي بحسن تعاملها مع هذه الأزمات الكبرى وسعيها الدائم إلى الحفاظ على منظومة جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي.
تتطلّع الشعوب العربية والمأزومة منها على وجه الخصوص إلى ما نتج عن قمة الرياض بالكثير من الأمل في بلورة موقف عربي موحد يساعد تلك الشعوب العربية على تجاوز أزماتها والعمل على الحدّ من العبث الإيراني بشعوبنا ودولنا، والذي فاقت نتائجه نكبة فلسطين، وتسبّب بنزوح عشرات الملايين من السوريين والعراقيين. وتحاول إيران مع تركيا وقطر ضمنا بجعل مجموعة الآستانة قوة قاهرة في المنطقة، وتجلّى ذلك بوضوح خلال التشاور السريع بين إيران وتركيا على مستوى وزراء الخارجية، ثم القرار الذي اتخذه البرلمان التركي بالتدخل العسكري في الخليج خلال دقائق، في حين أن الشعب السوري انتظر هذا القرار التركي سبعة سنين ولم يحصل حتى الآن.
لا أرغب التوغل كثيرا في التطورات الخليجية التي سوف يكون لها عميق الأثر على دول المشرق المحاصرة من تحالف الآستانة التركي الإيراني، لكن التجربة الطويلة لدينا نحن المشرقيين مع النزاعات والأزمات، جعلتنا نستطيع التمييز بين بداياتها ونهايتها. لذلك أعتقد أن ما يشهده الخليج ليس بداية أزمة بقدر ما هو بداية انتظام خليجي عربي إسلامي دولي جديد. وهذا الانتظام سيؤدي إلى نهاية زمن التشتت والاختراقات، مع يقيني أنّ القيادات والنخب الخليجية أقدر منّا على التعامل مع هذه التطورات. لكنني لا أستطيع أيضاً تجاهل أهمية ما يحدث في الخليج وتأثيره على كلّ الشعوب العربية بدون استثناء.