ظاهرة البحث والكشف في تاريخ السعودية وتراثها وحضاراتها تعد اتجاهاً حميداً لإثراء الحاضر والتطلع للمستقبل، وذلك لأسباب عديدة، أولها انطلاقه بمنظور العلم الحديث، ومن خلال نخبة كبيرة من المختصين في مجالات الأنثروبولوجيا والتنقيب والحفريات والتاريخ والهندسة وغيرها،إضافة إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية «الأنثروبولجيا»، والتي تثري هذه الاكتشافات عبر فهم علاقة المادة بالمجتمع، فلكي نفهم معطيات أي قضية راهنة، علينا دراسة تاريخ الحالة، ومنها اكتشاف الباحث الأنثروبولوجي السعودي البروفسور سعد الصويان الذي أكد فيه أن أصل العرب كان في قلب الجزيرة العربية وليس في اليمن كما هو شائع، وهو ما يمكن تأمله في أغلب المعطيات التاريخية، وخاصة بعد أن من الله على عالمنا بالإسلام، والذي تزامنت معه النهضة الاستثنائية للغة العربية عبر تدوينها وتحولها من تلك اللحظة التاريخية ولعدة قرون لغة العلم الأولى في العالم. فهذا من الكشوفات التي تؤكد محورية ثقافتنا في تاريخ العرب كله، وقدرتها على التطور وإثراء العالم والحضارات القديمة كما أُحدث في العراق والشام ومصر، عبر تقديم لغة أو ثقافة تفوق معظم ثقافات عصرها في التعايش، ومهما كانت الوسيلة لذلك إلا أن قابلية الاستمرار لا تميز إلا الثقافات الصالحة للتعايش. إضافة إلى اكتشافات الممالك والدول العربية التاريخية العديدة، والتي كانت في ذروة تقدمها المعاصر للزمن، لتؤكد نجاح الموروثات العربية الثقافية في التكيف والمرونة مع المتغيرات وتقديم مصلحة الجماعة والإعلاء من القيمة الإنسانية والقدرة على التنظيم والتمدن، وهي تلك الموروثات التي تميز ثقافتنا السعودية، وهو ما أثبته هذا الشعب رغم كل الظروف التاريخية التي مر بها عبر اتجاهه الحديث للتنمية والتعلم.

إحدى أهم فوائد هذا الاكتشاف هو ارتباطه بالبحث عن الثروات والكشف العلمي، وهو ما تبلور مع اكتشاف فريق تابع لشركة أرامكو لما أطلق عليه بسعدة الحجاز، والتي تعد أحد الاكتشافات الأثرية الأنثروبولوجية المهمة في فهم التاريخ التطوري للإنسان.

اكتشاف مملكة الأنباط العربية يلقي الضوء على مراحل النضج التي توصل لها العرب لما قبل الإسلام، ودورهم في الحضارات الكبرى الأولى وعلاقتها بمعطيات اليوم، أما اكتشاف المدافن والمذيلات القديمة في السعودية فهو يشير إلى حضارات ذكية ومنظمة يقدر وجودها بأكثر من 8000 سنة. وبشكل عام فاكتشاف التاريخ السعودي قد يساعد على تفسير الدور التاريخي الاستثنائي لسكان الجزيرة العربية في التاريخ الإنساني.

أما الفائدة الاقتصادية فهي من خلال السياحة بكافة أبعادها، والتي يمكن أن تتحول إلى أحد أكبر الصناعات الاقتصادية المحلية والدولية، سواء في صناعة فرص العمل أو في الإسهام بالناتج المحلي، إضافة إلى الفائدة الثقافية لإثراء حياتنا والشعور بالقيمة الإنسانية، كما أن اكتشاف هذا التاريخ وتعليمه في مؤسساتنا التعليمية سيؤدي قطعا إلى زيادة سعة الأفق لدى الطلاب، وعلى الاعتزاز بثقافتهم وموروثاتهم، وعلى النظر لأنفسهم كأمة لها تاريخ إنساني عظيم، ولها أدوار وتجارب حضارية بقدم التاريخ الإنساني. كما أن ذلك سوف يسهم لدى الطلاب في إلغاء النظرة الأحادية للعالم، لنتخلص تدريجيا من الاعتقاد السائد لدى البعض بأن الحياة إما خير مطلق أو شر مطلق، بل إنها ستحارب تلقائيا أزمة الاعتقاد بأن الآخرين شر، فنحن جزء أساسي من التجربة الإنسانية المشتركة.

عندما نقرأ في ويكبيديا أو الكثير من المصادر السائدة اليوم عن تاريخ السعودية ونقارنه مثلا بتاريخ مصر أو العراق أو الهند أو فارس وغيرها من الدول، فدائما ما نجد المصادر تتحدث عن السعودية وكأنها فقط تلك الدولة التي تأسست فقط من نحو 300 عام مع الدولة السعودية الأولى في 1744م، سواء كان تاريخ السعودية مع الإسلام أو ما قبل الإسلام، ورغم عظمة مشروع هذه الدولة واستثنائيته في توحيد الوطن التاريخي المجيد الذي غير التاريخ كله مع نزول الرسالة الإسلامية وقدم قبلها عدة دول عظيمة تمددت إلى أقصى الشمال وشاركت في منجزاته الحضارية، إلا أن الدولة السعودية التي أسسها آل سعود لم تكن إلا بعثا جديدا لتاريخ هذا القلب التاريخي للعرب ولكن بمسمى جديد.

في نفس الوقت فهناك خطورة بالغة بجعل الماضي حياة وتصورا وتعلقا بأمجاده وجعله فخرا ناجما عن أزمة نفسية اجتماعية، كما يحدث لدول أخرى لم توفق بالنهوض ولا من السيطرة على ثرواتها ولا مشاركتها مع شعوبها مقارنة بما يحصل في السعودية ودول الخليج العربي والتي تميز شعبها طوال التاريخ بموروثات القيادة والتجارة كصناعة يسيطر من خلالها على موارده، غير أن الانتقاص السائد لدى الشعوبيين الجدد تجاه السعودية يجب تفنيده، وهو توجه نابع أيضا من معطيات تاريخية ومعاصرة، لا يستوعب فيها الشعوبيون دور السعودية في قيادة المنطقة، وبأنه لم يكن حدثا طارئا بسبب النفط، وبأن النفط نفسه لم يكن السبب في هذا النجاح لولا تلك الصناعة المتوارثة، كما يعزز هذا التوجه الشعوبي أيضا تقصيرنا في تسليط الضوء على تاريخنا وتقديم أنفسنا من خلال هذه المكونات المتناسقة لحضاراتنا، في مرحلة انشغلنا فيها بالحاضر والمستقبل، فصنعنا فرصا عظيمة لشعبنا مازالت تثري حياتنا، غير أن الوقت قد حان لهذه العودة، وخاصة ونحن في مرحلة الاتجاه للكفاءة ومجتمع الإنتاج والأمة الأكثر اعتمادية، كما كان آباؤنا وأجدادنا طوال التاريخ.

ورغم أننا تأخرنا في هذا الاكتشاف إلا أن هناك جهودا عظيمة لعلمائنا وكفاءاتنا، وعلى رأسها إنجازات الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، ومعها برنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري، وجهود الأمير سلطان بن سلمان الاستثنائية في الرفع من مستوى البعد الحضاري للسعودية. فعلوم اكتشاف التراث الحضاري تعد من علوم الأمم المتحضرة، وما اتجاه السعودية إلى هذا المجال إلا انعكاس لحالة الازدهار الحضاري المتنامي في السعودية.

إيجازاً لما سبق، هناك عشر فوائد عظيمة لاكتشاف التاريخ السعودي، وهي الدخل الاقتصادي الوطني، وزيادة فرص العمل، والثراء الاجتماعي والثقافي، وتعزيز ثقافة الانفتاح، وفهم الموروثات، والرفع من مستوى الاهتمام العلمي، والفخر بالدور الحضاري، واكتشاف الثروات، وآخرها هو أن هذا الاهتمام يعد أحد سلوكيات الأمم المتحضرة.