تستمتع الأمزجة العربية كثيرا جدا بذاكرة الصعاليك والقتلة والسفاحين والحمقى في تاريخها، بل وتبحث عنها بنهم أكثر مما تستمتع أو تسعى لقراءة أو معرفة سير النبلاء والمفكرين والمكتشفين والفلاسفة في التاريخ نفسه.

والسبب من وجهة نظري يرجع إلى ثلاثة عوامل: أولها، أن العرب قوم أجلاف أهل سيف وظهور خيل وغزو، وثانيهما يكمن في البيئة القاسية للطبيعة الشحيحة الموارد والخيرات، والتي شكلت شخصية العرب الجافة الخشنة الصارمة، ورأت في الحروب والغزو والنهب صفات شجاعة في شخصية الفرد، وثالث العوامل يتمثل في غياب قطاع عريض جدا من الفنون الإنسانية كالنحت والرسم والموسيقى وغيرها، من تلك التي تهذب النفوس وترفع من مستوى الإنسان روحانيا، وإدراك جوانب مهمة في العلاقات بين البشر. وتحاول الذاكرة العربية دائما التماس الأعذار لهؤلاء الصعاليك من خلال تضخيم بعض الأفعال الإنسانية الصغيرة لهم، لتبدو وكأنها شيم وأخلاقيات لا مثيل لها على حساب سيرة طويلة من السلوك السيئ لتلك الشخصيات!

ولامرئ القيس، الشاعر الذي تتسابق على الانتساب إليه عدة قبائل في شبه جزيرة العرب، ويُعرف في كتب التراث العربية باسم «الملك الضلّيل» بعد أن أضاع ملك والده، و«ذي القروح»، الذي أجاد قول الشعر حتى قالوا إنه رأس شعراء العرب وأعظمهم، وجه آخر من الصورة التي عُرفت عنه، فهو أحد الصعاليك الذين تبجلهم الذاكرة العربية على صغر حجمها المعلوماتي بسبب غياب التدوين عن الثقافة العربية، واعتمادها الكلي على الرواية والمشافهة. إذ قدمته في صورة الرجل العظيم المؤثر، وصاحب التاريخ النضالي المهم، على الرغم من سوء طباعه التي جعلت منه في نهاية الأمر طالب ثأر أعمى.

كان امرؤ القيس على الرغم من انتسابه إلى سلالة ملوك كندة، صعلوكا سكيرا جلفا، ملازما للصعاليك (الدشير بالعامية)، هجّاما على القبائل نهّابا لأملاكها من أغنام وماشية وغيرها، طرده والده وأرسله إلى أعمامه في حضرموت أملا في تهذيبه، لكن الوقت كان قد فات.

وحين بلغه مقتل والده على يد قبيلة بني أسد، لم يأبه لذلك في أول الأمر وأكمل لهوه، وحين فرغ وتأكد له النبأ قال: «ضيعني صغيرا، وحملني دمه كبيرا، لا صحو اليوم ولا سكر غدا، اليوم خمر وغدا أمر». فطلب المدد من أهله للثأر، فأمده ذي جذن الحميري من مذحج وحمير، فاتجه صوب «كنانة» ليثأر، فقالوا له: لسنا نحن القتلة، بل بنو أسد، فأغار على بني أسد فقتل منهم كثيرا، وظل يلاحقهم أشهرا، حتى مل منه من كان معه، فرجعوا عنه، فذهب في رحلة إلى القسطنطينية لطلب المدد لمواصلة الثأر والقتل، فأودع في طريقه دروعه وابنته هند لدى السموأل بتيماء، وبعد حصوله على المدد مات في طريق عودته في أنقرة بتركيا نتيجة السم الذي وضع له في البردة كما يُروى (تتضارب فيها الروايات)، وقيل مات بسبب الجدري، وحين عرف بدنو أجله سأل عن قبر بجوار إقامته، فقالوا له هذا قبر شابة، قيل إنها أميرة دفنت وحيدة هنا، فأنشد «أجارتنا إنا غريبان هاهنا.. وكل غريب للغريب نسيب».

ويبرز من الشخصيات العربية التاريخية التي أخذت نصيبا كبيرا من حيز الإعجاب «عدي التغلبي» أو (الزير سالم)، وتقول بعض المصادر إنه خال امرئ القيس، سماه أخوه كليب بالزير، لأنه كان سكيرا وزير نساء.

قاد هذا الرجل قومه بحماقة في سلسلة حروب وقتال طلبا للثأر لأخيه 40 عاما، أباد فيها خلقا كثيرا حتى هزمت تغلب، ومات الزير منبوذا ضعيفا، حتى إنه لم يستطع الدفاع عن ابنته التي ُزوجت رغما عنه، وكان مهرها من الجلود.

كما تظهر في الذاكرة أيضا سيرة ثابت بن أوس الأزدي المعروف بـ«الشنفرى»، أحد كبار الشعراء الصعاليك والسرّاق أيضا، نبذته قبيلته لسوء سلوكه وجلافة طباعه، وكان يغير على بني سلامان حتى قتل منهم 99 كما تقول الروايات التي تختلف حول الأسباب الكامنة خلف ذلك السلوك العدواني.

وشكل الشنفرى مع عدد من الصعاليك مثل تأبط شرا، والسليك بن السلكة، وعمرو بن البراق، وأسيد بن جابر، وغيرهم جماعة عرفت في ذاكرة الأدب العربي بـ«الشعراء الصعاليك».

هذا جزء صغير مما تفضل العقلية والشخصية العربية متابعته، وتنبش في أدق تفاصيله، وهو ما يعكس السلوكيات العربية التي تتصف بالحدة والتعصب، وقلة المنجزات الإنسانية (وهي بضاعتنا على أية حال). فماذا لو أبدلنا رواياتنا التي تبجل الصعاليك بتلك التي تتحدث عن العلماء والمفكرين والفلاسفة، وأفردنا لسيرهم مساحات واسعة من أعمال الميديا بمختلف أنواعها، وقدمنا برامج ثقافية على مستوى الوطن العربي والعالم عنهم.

أظن أن ذلك سيكون أحد العوامل المساعدة على تغيير الفكر العربي وانتقاله من منطقة السلبية إلى منطقة العقل والسلام والإنتاج والإبداع، وليس البقاء في أسر حكايا شخصيات لا تكرس فينا سوى الفخر بالعصبية القبلية والماضويات الدموية، التي لا تشجع على بناء الأخلاقيات والتطلعات والمستقبل.