قبل يومين، فتحتُ صندوق البريد لأجد رسالة لطيفة من مجموعة حماية الجوار في الحي، تدعوني فيها رئيستها

إلى التواصل معها، في حال احتجتُ أي دعم أو حماية، أو في حال أردت المشاركة في اجتماع للحي بشأن الدور المأمول من الجيران فيما يحدث في المملكة المتحدة مؤخرا من أحداث دامية. أنهت السيدة التي لا أعرف إلا اسمها ورقم هاتفها رسالتها بقولها «لن تستسلم لندن للخونة وسنواجه هؤلاء الظلاميين معا».

يدرك البريطانيون أهمية أن تكون قادرا على الثقة في جارك، وإدارة ظهرك له دون أن تتلقى طعنة دامية. كما يعملون على تعزيز الأمن في الحارات، خلال تنشيط مجموعات تطوعية لحماية الجوار يسمونها «neighborhood watch»، يقع على عاتق أفرادها التنبه لأي خطر قد يحيط بالحي، مثل الوجود المريب لبعض الأشخاص، وملاحظة التحركات الغريبة في الأوقات غير المعتادة، أو السيارات المركونة والمهملة.

هذه الموثوقية بين الجيران، تجعل الحياة في الأحياء أكثر سهولة للجميع، فلا ينتابك القلق على أبنائك في حديقة الحي مثلا، لأن هناك دائما من يهتم.

لكن، مما يقلق هذه المجموعات التطوعية، أن بعض الجيران يشعرون الجميع بالريبة، فهم غير واضحين، كما يعملون على عزل أنفسهم ما استطاعوا، ولا يبدون اهتماما مخلصا بالجيرة، معرضين أنفسهم وجيرانهم للخطر.

تقول رئيسة هذه المجموعة، وجدت أن من يسلك هذا المسلك يكون لديه ما يخفيه، وهذا الشيء الذي يخفيه غالبا يجر المشكلات على الحي، مثل إيواء الأشخاص بشكل غير قانوني، أو التعاملات المالية أو الإنسانية غير المشروعة، والتي تبدأ صغيرة ثم لا تلبث أن تبدأ رائحتها تزكم أنوف سكان الحي.

ما الذي يمكن فعله في هذه الحالة؟ هل يعيش الإنسان على صفيح ساخن من القلق مع جاره، أم يواجهه مؤملا أن توضع النقاط على الحروف ويسود السلام والتعايش في الحي؟

يسهل على من يستأجر مسكنه أن يغيّر حيه إذا لم يتفق مع جيرانه، لكن ماذا يفعل من يمتلك منزله، ويصر جيرانه على مضايقته، ودس أنوفهم في شؤونه، بل وزراعة المشكلات في بيته وحيّه؟ لا أعتقد أن هناك حلا في هذه الحالة إلا المواجهة الحازمة لإنهاء القضايا العالقة، مهما كانت العواقب.

لو أخضعنا ما حدث مؤخرا بين المملكة العربية السعودية وجيرانها من جهة، وقطر من جهة، إلى منطق حق الجوار نفسه، سنجد بما لا يدع مجالا للشك، أن لدى قيادتنا كامل الحق في القرارات المتخذة تجاه جارتنا قطر، والتي لم تفلح المحاولات مع قيادتها على مدى عقدين من الزمان، استخدمت فيها القيادة السعودية كل الأساليب الأخوية والدبلوماسية لتعزيز جسر من الثقة والمصداقية، حفظا للأمان في المنطقة، ورعاية لحق الجوار والقرابة والنسب، إلا أن قيادة قطر كانت لديها -كما يبدو- أجندة مختلفة للمنطقة.

إن اللغة الحازمة التي أعقبت إعلان الرياض بقطع العلاقات مع حكومة قطر، لم تغفل الجانب الإنساني المتمثل

في العلاقات الممتدة بين شعوب الخليج، نسبا وصهرا وأخوة، ولم يغب عنها كذلك الأهمية الدينية للمملكة في نفوس المسلمين في قطر أو غيرها.

فقد حرصت حكومة خادم الحرمين الشريفين على طمأنة الشعب القطري، بأن الرياض لا تستهدف الشعب القطري بأي حال، وهي تقف إلى جانبه في هذه الأزمة، فلا تغيير على سبيل المثال في خطة استقبال الحجاج والمعتمرين القطريين عما كانت عليه قبل قطع العلاقات.

إن مطالب الحكومات الخليجية من الجارة قطر ليست مستحيلة، فالحرص مثلا على أمن المنطقة والتوقف عن التآمر ضد المصالح المشتركة، وعن دعم الميليشيات والانقلابيين،وعدم التعاون مع الجهات أو الأفراد الذين يسعون إلى الإفساد ما استطاعوا، أو ممن عرف هوسهم ومطامعهم السياسية، والتي يغلفونها زورا وبهتانا بالغلاف الديني، مثل الإخوان المسلمين، هي مطالب منطقية! إذ لا يعقل أن تقف القيادة القطرية مع وضد الخليج وقضاياه المصيرية في الوقت نفسه!

إن ما يجمعنا في منطقة الخليج أكثر بكثير مما يمكن له أن يفرقنا، إذا صفت النوايا، ولا يمكن أن يفرح أي عاقل بما حدث، فما زالت طعنة الجار القديم تئز في جسد المنطقة وتكلفها الكثير.

حقيقةً، لم تكن المنظومة الخليجية بحاجة إلى هذه الهزة التي كان يمكن تفاديها بالصدق مع الله أولا، وحفظ العهود والمواثيق التي قام عليها مجلس التعاون الخليجي، وبتحكيم المنطق والعقل، والحرص على المصالح المشتركة، والثقة فيمن يستحق الثقة فعلا، ويشاركك الدم والمصير.

لعل الأيام القادمة تحمل لنا بشائر عودة مخلصة وصادقة لحكومة قطر إلى المظلة الخليجية، وتجنيب أبناء المنطقة الواحدة والمصير المشترك، صراعات يفرح بها الأعداء، وتشتت شمل الأسر، وتبشّر بمستقبل غير مأمون العواقب.