يتردد على مسامع من يدرس علم اللغة (اللغويات) سؤال هام هو «هل تعتقد أن اللغة العربية ستموت في يوم ما كاللاتينية التي لم تعد تستخدم إلا في الكتب؟» وتكون إجابة الشخص المسلم غالبا أن اللغة العربية خالدة وباقية حتى قيام الساعة لأن الله حفظ القرآن من التحريف.
حسنا، أنا أتفق وأختلف مع هذا السؤال، فالسؤال الأصح هنا هو «هل تعتقد أن اللهجات العربية ستختفي يوما ما؟» الإجابة ستختلف حتما لأننا نتواصل عن طريق اللهجات العربية التي حلت محل اللغة العربية حيث يؤثر على هذه اللهجات العديد من العوامل الصوتية واللغوية والثقافية والاجتماعية والأيدولوجية، وفي هذا الصدد يجدر بنا التفريق بين مستويات اللغة العربية حيث تأتي اللغة العربية الفصحى في المقدمة وتكون حاضرة في خطب المساجد والإعلام الديني، يليها فصحى العصر «العربية الحديثة المعيارية».
وهي لغة نشرات الأخبار والمحافل الرسمية، ومن ثم عامية المثقفين حيث تشبه فصحى العصر لكنها لا تلتزم بالإعراب وتستخدم في برامج الحوار التلفزيونية، وبعد ذلك عامية المتنورين وهم الذين أوتوا حظا قليلا من التعليم وأخيرا عامية الأميين وتسمى لغة أولاد البلد.
مما لاشك فيه أن العولمة والانفتاح على العالم الخارجي تركا أثرا على جميع اللغات بما فيها اللغة العربية ولهجاتها، وأكرر إننا نتحدث لهجات عربية وليس اللغة العربية بحد ذاتها، نظرا لوجود فروق على صعيد المفردات والصوت وتراكيب الجمل، فما نسمعه في حياتنا اليومية ونتخاطب به مع الأهل والأصدقاء هو عبارة عن لهجة محلية خاصة بمنطقة ما، وهناك ظواهر تطرأ على اللغات بحيث يمزج الشخص بين أكثر من مستوى من اللغة العربية، كالمزج بين الفصحى والعامية، ويطلق على هذه الظاهرة (الازدواجية اللغوية)، حيث يكون الانتقال بين المستويات اللغوية ضمن نظام أو إطار لغة واحدة. أيضا هناك ظاهرة «اللهجة البيضا»، وهي من طرق التكيّف اللغوي، وحسب تعريف العامة فهي لهجة خالية من صفات اللهجات المميزة لها، يقصد بذلك الكشكشة بتحويل الكاف إلى شين، والكسكسة بتحويل الكاف إلى سين الخ. ومن السابق نستشف أن اللغة العربية ولهجاتها قد تكون معرضة للاندثار بسبب تعرضها إلى عوامل أشبه بعوامل التعرية اللغوية من ازدواجية وتكيف لغوي، إضافة إلى اللغات الأجنبية التي تشكل عاملا مستقلا بذاته بسبب العولمة التي قد أتطرق لها في مقال آخر لاحقا.
بغض النظر عن هذه العوامل التي تتعرض لها اللهجات العربية هنالك ظاهرة تعدت نطاق «اللهجة البيضاء» لدى الشباب في الحجاز-وأخص جيل التسعينات ومن هم أصغر سناً- أقرب ما أستطيع أن أصفها به هو الانحراف أو التنحي أو التحول في المستوى الصوتي (الفونولوجي) للحروف «الساكنة»، في اللهجة الحجازية وعلى وجه الخصوص حرف الراء والتاء. نظرا لضرورة سماع التحول الواضح في هذه الأحرف، والمقارنة بين مخارج الحروف الحجازية والمتحولة يجب علينا الرجوع إلى نظام الأبجدية الصوتية العالمية (IPA)، وهو جدول يحوي أكثر من صوت محتمل للحرف الواحد ولتعقيد هذه الطريقة سأطرح عليكم مثالا يسهل فهمه والوصول إليه عبر الإنترنت دون الرجوع إلى هذا الجدول، لنعُد بالذاكرة والزمن إلى فنان العرب محمد عبده في بداياته حيث نلاحظ من أغانية أن مخارج حروفه حجازية على عكس مخارج حروفه الحالية في أغانيه المعاد تسجيلها، فالتغيّر جذري. مثال على ذلك الراء الحجازية المخففة الرنانة (trill) في أغنيته «أشوفك كل يوم وأروح من البوم يا أبو شعر ثاير» أيضا (الظاء) في كلمة «نظرة». سنجد أن أغلب أصوات الحروف المخففة قد تحولت إلى أصوات مفخمة لنفس الحرف. وهذا ما يحدث الآن بين أوساط الشباب في الحجاز، فكل منا له قريب أو صديق تخلى عن موسيقية لهجته الحجازية واستبدلها بنسخة مستهجنة للسامع، ليست بنجديةً ولا حجازية. أرى أن هذه الظاهرة لها عدة أسباب، وقد أصيب وأخطئ، لذلك أدعو المهتمين من اللغويين إلى أن يقفوا عند مثل هذه الظواهر اللغوية الطارئة.
لكي أعرف الأسباب قمت بتوجيه سؤال لعدد من الأشخاص كالتالي «لماذا استبدلت الراء الحجازية بالراء المفخمة والتاء في كلمة «كتير»الى الثاء؟» كانت جميع الإجابات متشابهة المضمون، وجاءت كالآتي «لا أريد توضيح كلامي أكثر من مرة، ولكي أُفهم بسهولة». على الرغم من أن الإجابات واحدة إلا أنني لم أقتنع بالسبب وأخشى من أسباب أخرى دفينة لعلمي أن جميع من أجابوا على السؤال هم من مكة وجدة، فكيف لا تُفهم وأنت تتحدث لهجة منطقتك مع أبناء منطقتك؟. وللأسف الشديد لم يتنبه أي شخص منهم إلى السؤال الفخ، فلقد ذكرت لهم تغيير حروف لا مصطلحات وكلمات حجازية تحتاج إلى ترجمان. فمن هنا يتضح ضعف الشخصية والانتماء إلى الهوية الحجازية، نتيجة الضغط الإعلامي والاجتماعي تباعا، لأن الصورة النمطية عن الشخص الحجازي متجسدة في فؤاد والعميد اسعد عمر قلّي، اللذين صورا للناس أن الحجازي ضعيف وعلى نياته_ملطشة_ ومن هنا نأتي إلى السبب الثاني وهو تصنع القوة _الهياط_ أو بالحجازي _هيامة_ لأن الكوميديا الخليجية تعتمد أحيانا على المبالغة والتضخيم مع غياب النصوص المكتوبة يتصرف الشباب بعكس ما جاء فيها. قد يكون هناك سبب ثالث هو الانفتاح على العالم وانتشار السوشال ميديا التي أدت إلى تفشي حمى الشهرة بين أوساط الشباب، فهم يحاكون طريقة وأسلوب كلام المشاهير، على الرغم من أن هذا السبب نال حظه من النقد السلبي إلا أنه حقيقة مسجلة لغويا في الغرب، حيث توجد ظاهرة شبيهة بظاهرة تغيّر الحروف الساكنة في الحجازية، ولكنها طرأت هناك على حروف العلة. في الولايات المتحدة حصل عكس العملية، فأصوات حروف العلة اتجهت إلى التخفيف والانفتاح. يذكر أن أهم أسباب هذا التغير هو تبني الإعلام لهجة معينة، فالمشاهير قد يتخلون عن لهجة تكساس مثلا لكي يُقبلوا إعلاميا وجماهيريا، كما قاموا بتجربة لغوية على الأطفال عند سماعهم أشخاصا يتحدثون لهجة جنوبية وفي المقابل لهجة «المدويست» المعممة على الإعلام، حيث عبر جميعهم عن انجذابهم للشخص الذي يتحدث بها دون ذكر أي سبب وجيه. من هذا المنطلق، يتضح دور الإعلام الذي يعد أقوى سلاح في حال كان مقننا ومدروسا وإلا سنخرّج أجيالا مستنسخين يخشون التميّز وأكبر مخاوفهم قد تكون إعادة جملة والتعبير عن أنفسهم. لا زال هنالك وقت لكي نتميّز.