يتمّ اكتشاف جريمة يلفّها الغموض ثم يتّضح أنّها نفّذت على يد أحد المهووسين دينياً. ينكشف بعد تعقّب حركة ذلك المهووس أنّه ليس أكثر من أداة بيد المسؤول الأول عن الجريمة. والذي لا يكون مهووساً بل لا يكون متديّناً أصلاً! إنّما هو شخص أنيق متمدّن يُعرف عنه بغضه لكل مظاهر التعصّب الدينيّ!
يتكرر هذا التسلسل في أغلب أعمال (دان براون) السرديّة. دان براون ليس مؤلّفاً عبقرياً لروايات الإثارة فحسب، بل هو قارئ ممتاز للتاريخ، وهذا ما يتجلّى في قدرته الفائقة على صنع أنسجته المتداخلة بين ما هو تاريخي وما هو تخيليّ في سرده.
ثنائية المتمدّن (الانتهازي) و(المتعصّب الأداة) كفكرة متكررة لديه تنتمي إلى ما تسلل من قراءاته التاريخية
على ما يبدو. فهي فكرة موجودة في حركة التاريخ على نحو كثيف من التكرار.
(الحشّاشون) فرقة إرهابيّة عقائدية ظهرت في الشرق الإسلامي قبيل الحملات الصليبية واستمرّت خطيرة
ومؤثرة حتى قضى الظاهر بيبرس على آخر قلاعها في بلاد الشام.
كانت تلك الفرقة تعتمد على عمليات الاغتيال النوعية التي ينفّذها فدائيون على درجة عالية من التضحية لأنهم قلّما ينجون بعد أداء مهمّاتهم. يخبرنا المؤرخون أنّ هناك من أمراء الأيوبيين والمماليك ومن بعدهم من استطاع بعد خفوت سطوة الحشاشين أن يخترقهم بحيث يستعمل تضحياتهم في تصفية خصومه السياسيين، حيث ينطلق الفدائي بدافع عقائدي لينفّذ مهمّة تقلّ فيها فرصة نجاته، بإيعاز من زعيمٍ يشاركه الانتماء لشعار جماعته دون أن يشاركه الإخلاص لعقيدتها، ويقف من وراء ذلك كلّه منتفع لا تعني له تلك العقيدة شيئاً على الإطلاق.
روى لي أحد الجزائريين أنّ ضريحاً مزعوماً كثُر زوّاره في إحدى مدن بلاده الساحليّة. فما لبث بعض الشباب المنتمين إلى التيارات السلفية أن انخرطوا في جدل مع الأهالي ربّما وصل إلى الاصطدام بهم في بعض المواقف، قبل أن يتمكنوا أخيراً من إزالة الضريح وتسويته بالأرض. بعد مدة ليست بالطويلة انتصب أحد الفنادق السياحية الفخمة في الموقع الذي كان يحتلّه الضريح نفسه!
وانكشف في نهاية الأمر أنّ مستثمراً لم يعرف عنه التديّن قط، كان وراء تحريك ذلك الشباب السلفيّ!
قد تفيض أمثلة هذا عن السرد، ولعلّ الواقع من حولنا كثيراً ما تلوح به تجليات ظاهرة امتطاء الانتهازي ظهور المتعصبين نحو مآربه الدنيوية. ولكن ما هو السرّ الذي يجعل في المتعصب دينياً أداة يسهل استعمالها أكثر من سواه؟
إن احتمالية احتفاظ المتعصّب بجهله عندما يحتويه عالية جداً، فالمتعصب لا تحتجب الحقائق عن حواسّه بالضرورة. ولكنّه يفتقر إلى أهم ما يتيح له الإفادة منها، وهو شعوره بالحاجة للتعلّم. هو يرى أنّ كل من لا يفكّر على شاكلته لن ينطق بغير الهراء ولذلك لا يرغب بأن يسمع أي شيء منه!
كما أنّ أيّ متعصب لأفكاره، ولا سيما المتعصب دينياً قد يحمل شحنة انفعال مثاليّة. وغالباً ما تحتجب منفعته الذاتية عن إدارة سلوكه. فالمتعصب كما في عبارة آموس كلاوزنر «أقل المخلوقات نفعية على الإطلاق، فهو يريد أن يحررك من زلّاتك، من التدخين، من إيمانك أو من عدم إيمانك، يريد أن يحسّن عاداتك الغذائية ويمنعك من شرب المسكرات أو حتى التصويت بطريقة خاطئة». تعصّبه يترفّع به عن المنفعية، كما أنّ الترفّع بدوره يساهم في إحكام تعصّبه كذلك. فالتنزه عن الماديّات رغم نبله من الممكن أن يولّد في المرء شعوراً بالتفرّد والنقاء إلى حدّ الهوس أحياناً.
بالإضافة إلى أنّ المتعصب دينيا يتحرك وفق حوافز لا تتطلّب موعداً ملموساً. فهو لا يرى سوى موعدين أحدهما لا يطالب بشهوده، لأنّه لا يخصّه بل يخصّ الفكرة التي يحملها، وهو يوم تغلّبها الذي لا يشك إطلاقاً بضرورة قدومه. أما الآخر فهو يسعى إلى شهوده ولكنّه غير متحقق في هذه الدنيا بل في عالم ما بعد الموت. عند تعامل الانتهازي الدنيوي معه لن يجد نفسه ملزماً بتحقيق متطلبات أيّ موعدٍ منها، وهذا ما يجعل الأمر بالنسبة له مجانيّاً تماماً، ما خلا بعض ما يقتضيه الخداع والتنكّر.
إذن فالمتعصب بالنسبة لأيّ انتهازي شخصٌ يمكن المراهنة على انغلاقه على المدى الطويل. ويمكن الاعتماد على ما يشعر به من فجوة بينه وبين الناس في حمله عليهم دون اكتراث بمعاناتهم. ولا وجود لحدٍ زمنيّ من أجل الوفاء له بأيّ وعود.
ليس هناك ما هو أنبل من الدين، ولكن التدين الذي لا يستشار القلب في رحمته أو لا يسترشد بالعقل في عدله، ولا يصان بانفتاح على المعارف، ولا يرقّق بتواضع لا يطلب في الناس المماثلة، لا يؤمن أن يتحوّل ذات غفلة إلى أنشوطة من تعصّب تجرّ متعاطيه إلى أجندات المتلاعبين من أعداء القيم والأوطان.