في كثير من الأحيان أنت مضطر للحديث عن الفلسفة، بدلا من أن تتحدث في الفلسفة في السعودية. الفرق بين الأمرين كالتالي: الحديث (عن) الفلسفة يدخل فيما يمكن تسميته بالميتافلسفة، أي التنظير عن الفلسفة: تعريفها ومعناها وقضاياها. في أحسن أحواله هذا المبحث يعتبر تفلسفا في الفلسفة. في المقابل الحديث الفلسفي (في) الفلسفة هو الجواب على مبحث من مباحث الفلسفة، وطرح في قضية فلسفية محددة، كالحديث في المباحث الأخلاقية أو الميتافيزيقية أو الابيستمولوجية. لكي أوضح الفرق بين الحالتين سأسرد لكم هاتين القصتين: في السعودية ومنذ تقريبا 2005 ومع إنشاء الحلقة الفلسفية 2008 غالب المقابلات التلفزيونية والصحفية واللقاءات الشخصية تدور حول أسئلة من نوع: ما هي الفلسفة؟ وما أهميتها؟.. إلخ. في المقابل أثناء دراستي لماجستير الفلسفة في قسم الفلسفة بجامعة فلوريدا ستيت، لم يمر علي في أي يوم من أيام الدراسة أسئلة من نوع ما هي الفلسفة وما أهميتها. كانت الدراسة تتركز على بحث مسائل فلسفية ومنطقية حسب الترتيب الأكاديمي. مثلا في محاضرات الأخلاق كان الاهتمام حول المسؤولية الأخلاقية وحرية الإرادة، وفي الميتافيزيقا كان التركيز على قضايا مثل الهوية الشخصية ومشكلة الغموض ورسم الحدود. في بقية هذا المقال سأحاول تقديم تفسيري للفرق في التعامل مع الفلسفة بين المجالين.

 في السعودية، الفلسفة لا تزال غريبة يحاول البعض التعرف عليها. السؤال عن الغريب عادة يبدأ بمن أنت؟ الفلسفة في السعودية تواجه بسؤال من أنت؟ هذا بالتأكيد أمر طبيعي باعتبار غياب الفلسفة عن المؤسسات التعليمية والمؤسسات الأكاديمية. لكن أعتقد أنه من دلالات نجاح انتشار ووصول الفلسفة للفضاء الثقافي السعودي أن ينحسر هذا السؤال في حدوده الطبيعية، ويتيح المجال لأسئلة الفلسفة الداخلية في التداول. هذا يعني أن يتعرف الوسط الثقافي أو المهتمين عموما على الفلسفة، ثم ينطلقون بعد ذلك في الدخول إلى مباحثها وقضاياها الأساسية. بل يمكنني القول إننا يمكن أن نعكس الآية بحيث يتم التعرف على الفلسفة من خلال مباحثها وقضاياها وأسئلتها وليس العكس. هذا المقترح يمكن تقديمه للإعلاميين والصحفيين: حين استضافة أحد الفلاسفة فلا بد من الدخول

معه في القضايا الفلسفية التي ناقشها وعن أطروحاته الخاصة. هذا الطريق يمكن أن يكون الطريق الأفضل للوصول إلى تعريف المشاهد والقارئ بالفلسفة. يمكن تسمية هذا الخيار بالخيار العملي للتعريف بالفلسفة. هذا يشبه تعريفا بالهندسة ليس بتعريفها بل بعرض أعمال ومنجزات المهندسين. هذا الخيار ربما يحقق لنا هدفين أساسيين: التعريف بالفلسفة والدخول في المباحث الفلسفية في ذات الوقت.

 في سياقات أخرى، منها السياق الأكاديمي الفلسفي الأميركي، تحقق الانغماس في القضايا الفلسفية لدرجة أنك كباحث تتمنى لو تعاد وتفتح الأسئلة الأولية مثل سؤال ما الفلسفة؟

من النقودات المشهورة على الأكاديميا أن العاملين فيها ينغمسون في قضاياهم التفصيلية الجزئية لدرجة أن الصورة الكبرى، أو الأسئلة الأولية تكاد تتلاشى من الاهتمام. تتداول هذه الأسئلة في ممرات القسم وغرف الاستراحة والجلسات الخاصة بالنقاش العام، لكنها تتلاشى داخل قاعات الدرس. الفلسفة هنا قد تكون أفضل

حالا من بعض التخصصات الأخرى، باعتبار أنها تسعى منهجيا لفتح الأسئلة الأولى من جديد وباستمرار.

لذا تجد أن دراسة أفلاطون وأرسطو تتم وكأنها دراسة لنص معاصر. أعني من حيث الاهتمام بذات القضايا والأطروحات في حالة قريبة جدا من التزامن والمعاصرة. لكن في الأخير يبقى الأستاذ الجامعي مرتبطا بمعايير أكاديمية للحفاظ على عمله، تتطلب منه نشر دراسات علمية محكمة في أسئلة دقيقة وتفصيلية وجديدة. هذا الشرط الأكاديمي يدفع بالأسئلة الكبرى أو التأملية الأولى إلى ساحة المؤجل حتى استقرار المهنة الأكاديمية.

 الخلاصة أنني كباحث في القضايا الفلسفية في السعودية أجد مساحة ضيقة جدا للحديث عن تلك القضايا في اللقاءات التلفزيونية والصحفية. غالبا ما تتكرر أسئلة عما هي الفلسفة وما أهميتها للمجتمع... إلخ.

أحب التذكير هنا أنني لا أقصد بأي شكل من الأشكال أن هذه الأسئلة غير مهمة أو غير مفيدة. بالعكس ولكن الذي يقلقني هو توقفنا عندها وعدم تجاوزها لمراحل أخرى. الذي أحب أن أقوله للمهتمين في القضايا الفلسفية في الإعلام إن هناك طريقة أخرى جيدة قد تساعدكم على تحقيق المهمة الأساسية وهي تعريف الناس بالفلسفة وهي طريقة الدخول في القضايا الفلسفية. هذا سيتطلب بالتأكيد قراءة واستعدادا ولكنه لا يتطلب التخصص الدقيق من قبل المعد والمقدم. لنتصور لقاء ينطلق من سؤال: هل فعلا يملك البشر حرية إرادة؟ ما هي أهم الأطروحات الفلسفية في هذا المجال؟ ما علاقة هذه المباحث بالمسؤولية الأخلاقية ومسؤولية الناس تجاه أفعالهم قانونيا؟ مثل هذه القضايا تشد اهتمام وانتباه المشاهدين وتتفاعل مع قضايا حقيقية تواجههم، وفي ذات الوقت تعتبر مدخلا تعريفيا حيويا للفلسفة. مدخل ينطلق ليس من الحديث عن الفلسفة بل من خلال الحديث في المنجز الفلسفي. أي الفلسفة عمليا.