بأسلوب التساؤل بدأ.. وبفن السجع أبحر.. وبقصائد الأمس والحاضر استشهد.. وبعيداً عن الأنا.. أطلق للتجربة العنان.. تلك التجربة التي لم ترتد ثوب القصة.. أو تتدثر ببردة الرواية.. بل تجربة إنسانية.. كُتبت بإحساس شاعر.. وخبرة رجل دولة.. سرد رحلته من الميلاد إلى الكهولة.. متطرقاً إلى الشخوص المؤثرة.. والبيئة المُشكّلة.. والظروف حُلوها ومُرها.. تجارب مسنودة بكل العوامل التي أقحمته في ميادين التحدي.. ودفعته إلى خوض غمار التجربة.

تلك عناوين عريضة لكتاب مستشار خادم الحرمين الشريفين، أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل، الذي يحمل عنوان «إن لم... فمن..!؟.. الكتاب الذي صدر حديثا.. وفي دور النشر حط رحاله.. ناثراً على صفحاته أدوات الاستفهام؟ تلك الأدوات التي تُعمل العقل.. فعمد المؤلف إلى طرح الاستفهامات التي تتساءل عن المعنى في الحياة.. وعن الحكمة في القرار.. وعن القيم في المجتمعات.. ليحفّز بذلك.. فن التأمل الجوهري للنفس البشرية.. ودافعها للاستكشاف.


 لماذا ؟



في البداية.. وتحت لماذا؟ برر الفيصل سبب الكتابة.. فتبرأ من تدوين مذكراته أو تجربة شخصية.. ونفى أن يكون الحديث عن سيرة ذاتية.. بل أقرّ بأنه ومضات من مراحل الزمن.. التي لم يخترها بل اختارته.. وحكى عن مستقبل لم يرسمه بريشة الفنان.. بل كانت تحديات وجب عليه تخطيها.. فكان لزاماً عليه الوقوف لمنازلة الصعاب.. وترويض جموحها.. والاستمتاع بهزيمتها.. ولسان حاله يقول: أحب أعسف المهرة اللي تغلا.. وأحب أروض كل طرفٍ يموقي.

ولنبدأ مع الفيصل رحلة التأملات في كتاب «إن لم... فمن..!؟» ذي الــ215 صفحة.. فقد جاء ميلاد «المؤلف» قبل نحو 8 عقود.. كانت الصرخة الأولى.. إيذانا له بالخروج من رحم السكون إلى عالم التحديات.. وأقدس البقاع على وجه الكوكب كانت له مهداً.. تلك البقعة التي لم يدر في خلد «خالد».. - الذي أسماه جده الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود طيب الله ثراه - أنه سيكون لها أميراً.. والتي تغنى فيها شعرا.


 الغربة الأولى.. انفصال وعودة



في محطة الغربة الأولى.. بدأت تفاصيل «إن لم... فمن..!؟».. التي شهدت باكورة لبنات التحوّل والتشكُّل.. فعند عمر السنتين.. انفصلت والدة خالد الفيصل - يرحمها الله - عن والده.. فكانت الأحساء لـ هيا بنت تركي بن عبدالعزيز بن عبدالله، وله ولشقيقه سعد الفيصل يرحمه الله وجهة.. فانتقل برفقتها إلى معقل الحزم والصرامة.

يسترجع المؤلف شريط تلك الحقبة: أتذكر مجالس الأمير سعود.. والهيبة كأنها الطير على رؤوس الجالسين.. تتفادى عينه نظرة الناظرين.. وتتلعثم ألسنة الجالسين، هناك.. نهل «خالد» عدل الحكمة وقوة الهمة.. وفصاحة الكلمة.. لكنّ التحوّل الأكثر تأثيراً.. كان في سن السادسة.. حيث حطّت في الأحساء طائرة.. ترجل منها رجلان.. فكانت أول مرة.. يرى فيها جده المؤسس.. ووالده فيصل – يرحمهما الله -.. ذلك الموقف بقي راسخاً في عقل «الكاتب».. فرغم تقادم السنين.. إلا أن المشهد لا يزال في الوجدان باقيا.

 





الغربة الثانية.. خيبات وطموح



على أعتاب هذا الجزء من «إن لم... فمن..!؟«استرجع الأمير خالد الفيصل تأثير والده.. وبُعد نظره.. كيف لا.. وهو اليافع الذي اختاره الملك عبدالعزيز يرحمه الله في سن الثالثة عشر من العمر.. على رأس وفد إلى بريطانيا وفرنسا.. تحدث»المؤلف«عن الخبرات التي صقلتها التجارب.. ونشأة الملك فيصل في بيت جده لأمه.. كبير العلماء ومفتي البلاد حينها.. استعرض المناصب التي تقلدها.. وجعلت منه قائداً فذاً.. وفارساً شجاعاً.. تطرق إلى فكره المستشرف للمستقبل والذي دفعه إلى إنشاء المدرسة النموذجية في الطائف.. فانخرط فيها»خالد«.. ونال قصب السبق بين أقرانه، فحصل على الشهادة الثانوية.. لتتفجر الأحلام التي ما لبثت أن اصطدمت بمفاجآت الحياة وصدمات الواقع.

حمل الأمير خالد الفيصل أحلامه، وانطلق بها إلى الولايات المتحدة.. وهناك كانت الرحلة مليئة بالشخصيات التي أثرت فيه.. يتذكر أنه كان لاعب كرة قدم ماهرا.. لكن رحلته تلك التي أخذت من عمره أربع سنين.. انتهت بمفاجأة.. فقد تاهت الأحلام بين اللعب والجد.. لم يتحمّل البقاء.. فقرر الانسحاب.. وحزم الحقائب عائداً إلى المملكة.

 


رعاية الشباب



لم يتحمّس الأمير خالد الفيصل لمنصب مدير رعاية الشباب.. فقد خشي ردة فعل والده.. إلا أن وزير العمل والشؤون الاجتماعية الشيخ عبدالرحمن أبا الخيل والوكيل المساعد للشؤون الاجتماعية عبدالعزيز الثنيان اقترحا عليه الوظيفة وعادا من الملك فيصل بالموافقة.. وفي أول تمثيل خارجي لمدير رعاية الشباب الجديد.. جاءت لحظة التصويت على قرار.. فما كان منه إلا أن رفع يده معترضاً.. اعترض على ضم إسرائيل لدورات الألعاب الأولمبية.. ذلك الاعتراض صاحبه في البداية تصفيق.. وكانت النهاية عدم قبول إسرائيل.

في رعاية الشباب تحدث عن الموقف الذي جمعه بالشيخ الطنطاوي يرحمه الله.. ولماذا بكى الأخير؟!.. تحدث أيضا عن جسور التواصل التي مدها مع صحفيين أصبحوا فيما بعد رؤساء تحرير مثل خالد المالك وهاشم عبده هاشم وغيرهما.


 الإمارة مسؤولية وأمانة



لم يشأ الأمير خالد الفيصل أن يسرد تفاصيل انتهاء علاقته برعاية الشباب وتوليه إمارة منطقة عسير دون أن يعرّج على تاريخ الإمارة منذ فجر الإسلام.. وكيف أنها إرث ونظام إسلامي ضارب في جذور التاريخ.. ثم تطرق إلى أول نظام للأمراء عام 1359.. وقال عن الإمارة في معرض حديثه: الإمارة سلطة.. ولكنها ليست سلطة على المواطن.. إنما سلطة في يده كي يأخذ حقه.. الإمارة تُنشأ.. والأمير يُعيّن لخدمة المواطن والوطن.

ومن واقع خبرة امتدت زهاء خمسة عقود تحدّت خالد الفيصل.. عن مواصفات أمير المنطقة الواجب عليه التحلي بها.

 


 عسير.. أطع أعمامك



في أحد أيام شهر صفر من عام 1391 رن جرس الهاتف.. على الطرف الآخر محمد العبدالله الفيصل تارة.. والملك خالد بن عبدالعزيز أخرى.. وثالثة الأمير سلمان بن عبدالعزيز – حين كان أميرا للرياض.. جميع تلك الاتصالات كانت تزف خبر تعيينه أميراً لعسير.. وكان اللقاء بالملك فهد بن عبدالعزيز يرحمه الله خارطة الطريق التي انطلق منها للتنمية.. لكن الفيصل أبى إلا أن يكون لوالده كلمة.. فحرص أن يحصل منه على توجيه.. وأن يحظى منه بنصيحة.. فدار بينهما حوار: قلت: بماذا توجهني يا سيدي؟ قال: أمرك بيدك افعل ما تشاء.. وبعد إصرار أعطى الملك فيصل لابنه الوصية.. التي كانت ولا تزال منهجاً أبى الأمير خالد الحياد عنه.. قال له: أطع أعمامك.. ثم زاد قبل المغادرة إلى عسير أوصيك بمخافة الله.. وإرضاء الضمير.

وفي هذا الجزء من الكتاب.. اختصر الأمير خالد الفيصل مشاريع عسير في كلمة أوردها في الكتاب، وألقاها أمام الأمير عبدالله بن عبدالعزيز – ولي العهد حينها - ثم عرّج على أولويات ومبادرات عسير فكراً وتنمية.. وقبل أن يسدل»الكاتب«الستار على هذا الجزء بابتسامة ويمشي.. مرّ سريعاً على الحرب الفكرية التي خاضها.. والصحوة ونشأتها.. وهجوم أهل التكفير والغلو عليه.

 


 مكة.. الاستقبال بالمطالب



عام 1428 عاد خالد الفيصل إلى مكة مسقط رأسه.. والمكان الذي تلقى فيه أول تعليمه.. عاد أميرا لها.. ولكن قبل أن يباشر مهام عمله في الإمارة.. وعلى أرض المطار.. جاءت مطالب أهالي جدة.. إذ طالبوا بحل ثلاث مشكلات.. فما كان من الفيصل إلا أن قطع على نفسه وعداً.. أن يخدم المنطقة وأهلها، وأن يبذل كل الجهد لتحقيق مطالبهم بتوفيق الله.

في أول دوام بديوان الإمارة بالعاصمة المقدسة دق ناقوس الذكرى.. وعادت بالفيصل الذكريات بمجرد أن رأى قصر الملك فيصل.. فاختزل ذلك قائلا: تخيلت والدي.. وإخواني.. وتذكرت دخولي البيت الصغير الذي كان يقال له قصر.. خرجت من صدري تنهيدة.. طردتها بعزيمة.. تجوّل خالد الفيصل في شوارع مكة.. ولكنه وقف أمام البيت.. فكانت له حكاية.. نظر إليه.. ثمّ أمهل المعنيين بهدمه خلال 24 ساعة.. ولكن لماذا؟ بقية القصة بين أسطر الكتاب مروية.

تحدّى الأمير خالد الفيصل الشيب.. وقهر تقادم السنين بعزيمة الشباب.. فزار محافظات المنطقة واطلع على واقع التنمية فيها.. لكنه آمن أن اليد الواحدة لا تصفق.. فاستقطب من الرجال الكفاءات.. ومنهم الدكتور عبدالعزيز الخضيري.. والدكتور سعد مارق.. والدكتور هشام الفالح.. وأبناء المنطقة الذين بدؤوا معه في تنمية تبدأ من الكعبة وتنتهي إليها.

 


التعليم.. اكتشاف المواهب وصقلها



عام 1435 كان الحدث استثنائيا.. الأمير خالد الفيصل وزيرا للتربية والتعليم.. فما كان منه إلا أن استجاب لمشيئة الله.. ولبى رغبة الملك.. فباشر مهامه الجديدة.. التقى الدكتور خالد السبتي.. والدكتور حمد آل الشيخ.. والدكتورة نورة الفايز.. فكانوا مع المختصين في شركة تطوير.. يداً واحدة.. ووضعوا خطة تطوير متكاملة.. وتم الرفع للملك الذي أمر بمشروع تطوير خُصصت له ميزانية قدرها 80 ملياراً.. حقبة وزارة التعليم حملت بين صفحات كتاب»إن لم... فمن..!؟«الكثير من القرارات والأحداث.. التي تطرّق إليها «الكاتب».. والكثير من الأنشطة التي انطوت تحت شعار «الاعتزاز بالدين.. الولاء للملك.. الانتماء الوطن».

 


 من نحن.. ماذا نريد؟



حبى الله المملكة ميزات عدة.. وخصها قيادة وحكومة وشعباً بسمات فريدة.. فنحن لأقدس البقاع جيران.. ولضيوف الرحمن خدّام.. دستورنا القرآن والسنة.. تلك عوامل تجعلنا متفردين، وذلك ما ركز عليه الأمير خالد الفيصل تحت تساؤل «من نحن..؟».. فدعّمه بالشواهد منذ تأسيس المملكة على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن يرحمه الله وحتى اليوم.. وفي ثنايا هذه الجزء وتحت تساؤل «ماذا نريد..؟» لم يشأ الفيصل أن يطرح إجابات.. بل أجاب عن الأسئلة بأسئلة ليحفّز الفكر.. ويدفع النفس البشرية.. إلى البحث والاكتشاف.. ولعلها مساحة تركها أمام القارئ ليشارك في طرح الرؤى التي تساعد في تشكيل الشخصية.

 


 النهج الجديد.. كيف نبدأ؟



هنا دعا الفيصل إلى نهج جديد.. لأساليب فكر وحياة مبتكرة.. لصناعة حضارة رائدة.. وأن نلحق بركب التطور قبل أن يداهمنا التخلف، فاستحثّ الهمم لصناعة مجتمع راقٍ.. بإيمانه وصلاحه.. وعلمه وأخلاقه.. بإدارته وقدراته.

وختم بالقول أيضا.. ماذا نريد؟ نريد أن ننهض ببلادنا، ونصل بها إلى مصاف الدول المتقدمة.. وذلك بأن نكون قدوة لغيرنا.. وأن نبدأ بالتغيير من أنفسنا قبل الغير.

 


كيف تشكلت تجارب الحياة؟

لخصّ «خالد الفيصل» مكتسبات نماذج الحياة.. التي بدأت من تجارب الحياة.. ومن مجالس الرجال.. وتحولت إلى مبادرات.. سعد بالمساهمة في إنجاحها.. يقول:

«هناك من سوف يعتقد أنني نسيت..

أعمالاً أخرى تستحق الذكر..

ولكني آثرت أن أقتصر على التجارب التي شكلتني فكر إنسان..

والتي شكلتها للوطن بنياناً..


 هل تؤطر الكلمة فكراً؟



بين طيات الصفحات الثلاثين الأخيرة من كتاب الأمير خالد»إن لم... فمن!؟».. كان للتوثيق مكان.. فحملت تلك الصفحات كلمات «المؤلف» في جائزة الملك فيصل العالمية.. ومؤسسة الفكر العربي.. ومنتدى جدة الاقتصادي.. وكيف نكون قدوة؟.. ثم على عجالة كانت له مع منهج الاعتدال السعودي وقفة.. ومع سعود الأوطان قصة.. ليقترب من النهاية بحدثين أنسياه المكان والزمان.. ويختم بشهادة تحمل اعترافات.. وتحكي قصصاً كانت له مع أعمامه.. ولتكون أخيراً عبارة «كتاب ليس فيه أنا».. مسك الختام لتجربة روى فيها الفيصل شخصياتٍ ومواقف وأحداثا شكّلت تجربته على مدى 70 عاما.