تعيش بريطانيا هذه الأيام أجواء سياسية مشحونة بالمناظرات والحملات الدعائية للحزبين الرئيسيين: المحافظون (الحاكم حاليا) بقيادة رئيسة الوزراء تيريزا ماي، وحزب العمال بقيادة السياسي المخضرم جيرمي كوربن. إذ إن الانتخابات العامة ستُجرى يوم 8 يونيو الجاري، أي بعد بضعة أيام فقط. وتشير بعض استطلاعات الرأي إلى تزايد فرص حزب العمال في إحراز تقدم على خصومه متسلحا بأصوات الشباب، الذين تألموا لتصويت الأكبر من سنهم للخروج من الاتحاد الأوربي، وذلك رغم حملات التشويه الإعلامية المنظمة التي تعرض لها رئيس الحزب الحالي، واتهامه بالشيوعية، ومساندة الجماعات الأيرلندية المسلحة IRA في الماضي، بل واتهامه بالتعاطف مع القاعدة وبن لادن! ولكن يبدو أن الشعب البريطاني الذي فاض به الكيل من سنوات حكم المحافظين الست، وسياساتهم التقشفية التي تضرب الطبقات المتوسطة والعاملة وذوي الدخل المحدود فيما لا تمس الأغنياء والتجار والمستثمرين ومديري المصارف، قد يقرر أن يصوت للحاضر لا للماضي ولمن يخدم مصالحه الاقتصادية تحديدا.

وسط كل هذه الأجواء السياسية الحامية، يهز حادثان إرهابيان أكبر مدينتين فيها: لندن، العاصمة وواحدة من أكبر وأعرق وأشهر مدن العالم، والتي يرأسها- للمرة الأولى في التاريخ- عمدة مسلم هو صادق خان، ومانشستر ثاني أكبر مدينة وأهم مدن الشمال الإنجليزي (ومسقط رأس كاتبة السطور!). ألا يبدو التوقيت مريبا بعض الشيء؟ وألا يفترض أن تكون الاستعدادات الأمنية عشية المناسبات السياسية الكبرى على أقصى درجة؟

لا نعرف الكثير حتى الآن عن جريمة لندن البشعة التي راح ضحيتها - على الأقل- سبعة أشخاص، لذلك سنتناول بشكل أكبر حادثة مانشستر. فقد تبين بأن من قام بها شاب بريطاني من أصل ليبي، لكنه من مواليد المدينة ذاتها، وقد التحق بداعش وسافر للشرق الأوسط وعاد منها، ومعروف بسلوكه غير السوي إسلاميا، وفي الوقت نفسه معروف بآراء عنصرية مناهضة للغرب. المثير للاهتمام أن معارفه وحتى المسجد الذي كان يقصده قاموا بالتبليغ عنه وعن آرائه المتطرفة للسلطات. بل الأغرب فهو ما غرد به رئيس الولايات المتحدة الأميركية، قائلا إن رئيسة وزراء بريطانيا منزعجة لأنه كان قد أعلن في وقت سابق بأن الاستخبارات الأميركية قد أبلغت نظيرتها البريطانية عن خطورة هذا الشخص تحديدا! ومع ذلك لم يُستدع أو يحتجز كما حصل مع مئات المسلمين الأبرياء لمظنة الشبه في كافة أنحاء العالم خلال العقد الأخير.

فتغريدات الرئيس ترمب أظهرت أن هناك تساهلا أو تراخيا، سهوا أو عمدا، في حماية الشعب البريطاني من هذا المجرم. فهل كان يُراد لهذه الجرائم أن تقع لتحقيق مكاسب سياسية محددة؟ فالناس حين تخاف تختار الوطنيين المتعصبين الذين يرمون بالمشكلات على الأجانب، ويرغبون في إغلاق باب الهجرة، والتضييق على الأقليات. وهذه ليست المرة الأولى التي تحصل فيها انفجارات وأعمال إرهابية منسوبة للجماعات المتأسلمة قبل انتخابات حاسمة، فقد كانت حادثة مدريد المؤسفة عشية الانتخابات كذلك.

دائما يقال إنه لكي تجد المجرم عليك أن تفكر أولا في المستفيد. ومنذ تفجيرات مانهاتن وحتى اليوم، عجزنا في أن نجد ولو لمرة واحدة مستفيدا حقيقيا له علاقة بالإسلام والمسلمين. بل العكس هو الصحيح، فكل عمل تخريبي إرهابي يقع في مدن أوروبا وأميركا تتبعه انعاكسات سيئة للغاية على الأقليات المسلمة في تلك الدول من جهة، وعلى الدول الإسلامية من جهة أخرى. إذ تعرضت دولتان مسلمتان بعد أحداث سبتمبر للاحتلال وهما العراق وأفغانستان، كما تعرضت دول أخرى للقصف والعقوبات.

وقبل اغتيال مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، كنت تشعر بأن هناك مركزا رئيسيا للتخطيط للعمليات الإرهابية، وأن ثمة جهازا إداريا منظما يحكمها من مكان واحد. فجأة توارت القاعدة عن المشهد السياسي، لتحل محلها منظمات إرهابية صغيرة ومتناثرة لا رابط بينها، تعتمد على الأفراد لا الجماعات في تنفيذ جرائمها. أما العدو الجديد (داعش) فهو يمارس نفس سياسة القاعدة في تبني كل عمل إجرامي، لكسب الأنصار وخلق حالة من الرعب المحلي والعالمي. فهل يعقل أن تتمكن دولة بدائية في وسط الصحراء ما بين سورية والعراق، جل أفرادها من الشباب الغر، من اختراق حصون العالم أقوى دول العالم عسكريا وأمنيا وتقنيا وعلميا؟ بل وتستطيع أن تصل إلى قلب وعقل مواطن أوروبي مسلم لتقنعه بخيانة بلده وأهله والتضحية بحياته؟

بعد أحداث سبتمبر وقفنا طويلا أمام المرآة، مشاعرنا امتزج فيها السخط والغضب والخجل والإنكار والخوف. فقمنا نفتش بأنفسنا في تراثنا ومناهجنا بحثا عن بذرة الإرهاب التي اتهمنا بها، وأخذنا - ولا نزال- ندين أنفسنا بأنفسنا، ونقسم للعالم بأننا سنتوب وسننظف بيوتنا. لكن نظرة معمقة في كل إنتاجنا الفكري والثقافي والديني لن يوجد فيه ما يبرر أو يشجع على الإرهاب بالصورة الجنونية التي نراها. ولم يشهد العالم منذ فجر النبوة عن قيام المسلمين بقتل أنفسهم والآخرين لمجرد الحقد والكراهية، ولم يسجل أن شباب المسلمين قرؤوا كتب الجهاد ثم ساحوا في الأرض يجزون رقاب الخلق!

كل حروب المسلمين مع غيرهم كانت حروبا شريفة، تلتقي فيها الجيوش، لم تكن أحداثا تُدبر بليل. وحتى في عصر الاستعمار وأثناء حركات التحرر الوطني المشروعة في القرن العشرين، حارب فيها المسلم المحتل وجها لوجه وعلى الأرض المحتلة، فلم يحاربهم في لندن وباريس وروما ولشبونة.

مع كل حادث إرهابي يحصل هذه الأيام تتجدد القناعة بأن هذه الأحداث ليست نتيجة لعمليات شحن وغسل دماغ في المساجد وحلقات التحفيظ ومن خلال قراءة كتب التراث. وليس سهلا أن تقنع إنسانا صحيحا في أوج حياته بتقديم حياته قربانا لقضية غير واضحة المعالم.

ما يحصل هو أقرب للجريمة المنظمة التي تديرها جماعات المافيا العالمية، أو الاستخبارات الدولية، أو متنفذون مستفيدون ماديا أو معنويا من صنع هذه الفوضى العالمية، وبث الذعر الكوني، ونشر كراهية هذا الدين وأهله والتضييق عليهم وطردهم من الدول الأجنبية. وسيمضي وقت طويل قبل أن يكتشف العالم أو يصدق هذا الأمر. وأظن أنه قد حان الوقت لنتوقف لحظة عن جلد النفس، وتصفية الخلافات بين التيارات على حساب سمعة ديننا وكرامة أوطاننا، لنطرح السؤال عينه: من المستفيد؟