لعلماء الأصول تعريف للعوام يقوم على حد فاصل بينهم وبين العلماء، هو الاجتهاد، فكل من بلغ درجة الاجتهاد فهو العالم الفقيه، وكل من لم يصل إلى درجة الاجتهاد -بحسب الشروط التي وضعها علماء الأصول- فهو غير مجتهد، وإذًا؛ فهو عامي.
أما الفلاسفة فهم يرون «أهل الجدل»، أو «غير البرهانيين» هم العوام، وأهل الجدل عند الفلاسفة -في التراث العربي- هم علماء الكلام.
وأما الصوفية الذين يرون أنفسهم «أهل الطريق»، و«أهل الحقائق» فهم الخواص، ومن سواهم من «المحجوبين» فهم العوام. ويسمي الشيعة الاثنا عشرية مخالفيهم «الجمهور»، فالجمهور (أي العوام)، هم كل من ليس شيعيا اثني عشريا. ويسمى العوام في كتب التراث بالدهماء، والغوغاء، والرعاع، والخُشارة، والنخالة، وغير ذلك من الأوصاف، وقد كتبت في هذا مقالة فلا أطول هذه المقالة بذكره. ولست ها هنا معنيا باختلاف المختلفين في تحديد من هم العوام، ولكني -ولدلائل لا أرى طرحها ها هنا لازما- أرى في زماننا أن العامي هو الرجل البسيط أو «ابن الشارع» كما يطيب للبعض أن يسميه.
يراهن كثيرون على العوام في الإصلاح والتغيير، ويرون أن العامة واعون، وفاهمون، ويدرون مصالحهم، ويستطيعون التفريق بين الصواب والخطأ، وبين المحق والمبطل، وكتب كثيرون في «الدفاع عن العوام»، وفي الهجوم على من «يزدريهم» ويهون من شأنهم. فهل العوام حقا بهذه المنزلة من «الوعي»، ويستطيعون حقا التمييز؟ فلماذا ينتصر الشعبويون في أوروبا وأميركا؟ ولماذا «ثار» الشعب المصري على النظام الأسبق، ثم في أول انتخابات كانت المفاجأة أن تفوق منتخب الثوار على خصمه المحسوب على النظام الأسبق لم يكن إلا بفارق ضئيل جدا في النسبة المئوية لا يكاد يذكر؟!
بماذا قتلت الشهيدة المسكينة «فرخندة» في أفغانستان حتى الحرق؟ أليس من أجل أنها أنكرت على بائع للوهم خداعه النساء البسيطات ببعض التمائم والرقى الكاذبة ولجلب البخت؟ وسرعان ما اتهمها بأنها تكفر بالقرآن، وسرعان ما هاج «العامة» و«الرعاع» و«الطغام» و«الحشوة»، فأوسعوها ضربا وركلا، حتى إذا ما خارت قوى المسكينة، ولم يعد فيها حراك إلا لبعض الأنفاس أحرقوها بالنار.
بماذا ثار طائفة من الشعب المصري على «شيخ شيعي» في مصر، فأخرجوه من داره، وأوسعوه ضربا وركلا، ثم قتلوه، وجروا جثته جرًا في الشوارع؟ أفهذا من شرع الله ومن دين الله في التعامل مع «المبتدع»؟
وفي التاريخ كثير من الأخبار عن «هياج العامة» في ما يعلمون، وما لا يعلمون، فهذا ابن الأثير يخبرنا عن ظهير الدين بن العطار -رحمه الله- وكان وزيرا للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله، يصفه ابن الأثير فيقول: «وكان خيّرا، حسن السيرة، كثير العطاء، وتمكن تمكنا كثيرا، فلما مات المستضيء شرع ظهير الدين ابن العطار في أخذ البيعة لولده الناصر لدين الله».
ثم يقول: «وفي سابع ذي القعدة قُبض على ابن العطار ظهير الدين، ووُكل عليه في داره، ثم نقل إلى التاج، وقُيد ووكل به، وطلبت ودائعه وأمواله، وفي ليلة الأربعاء ثامن عشر ذي القعدة أُخرج ميتا على رأس حمّال سرّا، فغمز به بعض الناس، فثار به العامة، فألقوه عن رأس الحمال، وكشفوا سوءته وشدوا في [...] حبلا وسحبُوه في البلد، وكانوا يضعون بيده مغرفة يعني أنها قلم وقد غمسُوها في العذرة [أي النجاسة] ويقولون: وقع لنا يا مولانا، إلى غير هذا من الأفعال الشنيعة، ثم خُلص من أيديهم ودُفن»، يعلّق ابن الأثير على هذه القصة الأليمة فيقول: «هذا فعلُهم به مع حسن سيرته فيهم وكفّه عن أموالهم وأعراضهم». انتهى كلامه.
ويروي الذهبي عن الشيخ أبي بكر محمد بن يحيى بن عبدالله الصولي، أنه كان محدثا، حسن المعتقَد، إلا أنه بقي مستترا عن الناس لأنه روى حديثا في مناقب عليّ، رضي الله عنه، فثار عليه العامّة!
وكذا ما نقله ابن الأثير وابن كثير وغيرهما في الفتن التي كانت تقوم في بغداد وغيرها بين السنة والشيعة، وما كان يجري فيها من قتل وحرق وتدمير إنما كانت غالبا بين العوام الجهلة، ثم يركب بعض العلماء والسياسيين الموجة في بعض الأحوال.
ونقل الذهبي كذلك، عن القاضي عياض، قال: «حدث في القيروان مسألة في الكُفّار؛ هل يعرفون الله -تعالى- أم لا؟ فوقع فيها اختلاف العلماء، ووقعت في ألسنة العامّة، وكثُر المراء، واقتتلوا في الأسواق».
فهذه صورة من صور العوامّ وكيف يهيجون وكيف يفعلون، وهم المقصودون بقول علي بن أبي طالب: «أتباع كل ناعق».
هؤلاء العوام هم الذين يتناقلون صورة «حبة طماطم» مكتوبا في داخلها لفظ الجلالة، أو شجرة محنيّة يقولون إنها راكعة، وينقلون الأخبار الكاذبة، ومن نشر هذا الخبر حصل له كذا وكذا، ومن لم ينشره حصل له كذا وكذا.
المقصد من كل هذا، أن المعوّل عليه في التغيير والتطوير والإصلاح، إنما هم النخَب، وما «العامّة» إلا الوقود الذي يشعلونه لبلوغ مقاصدهم، بالتأثير فيهم بالصورة، والرمز، والخطابة، والشعبوية، وسواء في ذلك أكانت مقاصد النخب المتصارعة حسنة أم رديئة.