من أسوأ ما يمكن أن يقع فيه الإنسان، فرداً ومجتمعاً، الفكر الدائري الانغلاقي، الفكر المسجون في القفص الذي يصنعه -دونما قصد- لنفسه بنفسه، فيفقد بذلك قدرته على الرؤية المتجاوزة إلى الأبعد، ويفقد جدارة الفكر وقيمته.

أحد أشكال هذا الفكر، أن يَعْلَق في مأزق الاستدارة بين قطبين، متصورا أن أحدهما يلزم عن الآخر ويترتب عليه، كما تلزم الغاية أو النتيجة عن الوسيلة التي لا تحقق إلا بها، فلا يغدو ممكنا آنئذ تمييز أحدهما من الآخر، ويصبح تحقيق الغاية المقصودة هو ذاته الوسيلة إليها.

لننظر في المثال التالي:

الغاية التي يريدها المجتمع هي «التقدم»، ولابد لكي يتقدم من أن يعرف معنى التقدم وقيمته وأهميته؛ فالسبيل إلى ذلك هو أن يكون متقدما لكي يعرف معنى التقدم وقيمته وأهميته. التقدم هكذا نتيجة ينبغي الوصول إليها، والمعرفة بالتقدم هي المقدمة لتلك النتيجة والوسيلة إليها.

والحال أن المعرفة بالشيء حدث تال لوجوده لا سابق، ولازم ذلك أن تنغلق الدائرة: فتترتب النتيجة على السبب، ويترتب السبب على النتيجة في وقت معا، وهنا نتبين الدور المنطقي، الذي ينغلق فيه الفكر على نفسه.

في حلقة البرنامج التمثيلي «سيلفي» التي مثَّلت صحفيا مستبدا، موصوفا بالليبرالية، (من تأليف خلف الحربي)، كانت الإثارة التي أحدثتها في وسم، تداوله آلاف المغردين، مستديرة بين قطبي: الديموقراطية والقمع، والديموقراطية وعدم التأهُّل لها.

وذلك بسبب حوار في أحد مشاهدها، نفى فيه الصحفي، الذي مثَّل دوره ناصر القصبي، صلاحية شعوب المنطقة للديموقراطية، لأن الخطابين الديني والقَبَلي، يتحكمان في نتائج الانتخابات، فلا يختار الناس فعليا من يمثِّلهم.

وقال: «هاذي شعوب ما ينفع معها إلا القمع... هاذي الشعوب فاقدة الأهلية... اقمع بس».

وهو مشهد تهكمي وساخر على أي حال، لكنه استثار الاحتجاج، من وجهة تأبى وصف الشعوب العربية والخليجية تحديدا بفقدان الأهلية للديموقراطية، لأنه تحقير لها، وترفض الدعوة الصريحة والمفتوحة إلى قمعها، بوصف

القمع بديلا لعدم التأهل للديموقراطية، وضدها الذي يقابل فيها دلالاتها على التشكُّل من وجهة التعبير عن الفرد مستقلا عن أي فَرْض يعلو على قناعته.

واستثار، من وجهة مقابلة، تصديقه والاقتناع به؛ لأن الواقع يشهد بصحته، والمرشحين للانتخابات، لا يراهنون على جدارتهم الفردية، ولا على البرامج والوعود التي يعلنونها للناخبين، بل على انتماءاتهم الفئوية، والتزكيات التي يتملقونها من مرجعيات دينية أو قبلية.

توصيف المجتمع من وجهة صلاحيته للديموقراطية، جاء في الحوار الذي قدّمه المشهد، توصيفا متراتبا بين ضدين أو نقيضين: الديموقراطية في مقابل القمع، والديموقراطية في مقابل عدم التأهيل.

فهل يلزم أن تنتظر الديموقراطية إلى أن ينضج المجتمع ويتأهل لها؟ وكيف يتأهل أحد لما لم يعرفه ويمارسه ويَشْقَ به أو يسعد فعلياً؟ ثم ما بديلها؟ هل يمكن أن يكون القمع بديلا لها؟ كيف يكون بديلُها ما هو بالضد منها؟!

هكذا يَعْلق الفكر في مأزق الاستدارة بين قطبين، وينغلق على التقابل الذي يجعله أسير العلاقة بين طرفيه؛ فلا نفهم الديموقراطية وهي موضوع الجدل إلا بمقابلها وهو القمع أو عدم التأهيل.

ومن هذه الوجهة كان المشهد مرآويا للواقع، فهو يرينا «الفكر المستدير» الذي يحجز الرؤية عن الانطلاق، ويشلّ الحركة ويحجب النور، ومقولته التي أثارت الجدل قبولا ورفضا، هي مقولة الواقع المعاش.

وبقليل من التمعن في مطالبته -ساخرا- بـ«القمع» بديلا عن ديموقراطية مشلولة، ندرك كيف ضمَّن هذه المطالبة نقدا اجتماعيا حادا للوجهة المضادة للديموقراطية، حين وصفها بالقمع، واستثار به -بشكل غير مباشر- الهجوم عليها في موضع الهجوم -مباشرة- عليه.

هكذا كان الحوار في المشهد يعيد بناء الواقع من خلال التفكير فيه وتصويره بين المتعارضات الثنائية، التي تتلازم على نحو يجعل كل طرف منها لازماً لمُقابِله، ولكنه بسخريته من الواقع وبما وصمه به من القمع يزعزع هذا البناء ويوهن الثقة في تلازم متعارضاته.

فليس لنا -إذًا- إلا أن نفكك تلك المتعارضات لكي نفهمها خارج التعارض، وهذا هو ما يجعلنا نخرج من «الدور» ونغادر الغرفة المغلقة على وعينا.

وأول منفذ في هذا التفكيك هو نقض علاقة التعارض الثنائي بين الديموقراطية والقمع، فليست الديموقراطية مقابلا للقمع وضدا له. وإذا كانت الديموقراطية -في التعارض الذي تضمّنه نص الحوار- تعني الانتخابات، فكم من ديموقراطية أنتجت، عبر الانتخابات وباسم إرادة الشعب، من القمع والاستبداد ما لم يعهده الناس في أكثر الأنظمة الاجتماعية تخلفاً.

وأعظم الدكتاتوريات وأشدها غطرسة ودموية في القرن العشرين، جاءت عبر صناديق الاقتراع، وحَمَلتْها الانتخابات إلى تملُّك سلطة مطلقة. وسيتداعى إلى الذاكرة سريعا الحزب النازي وزعيمه أدولف هتلر في ألمانيا، والزعيم الفاشي موسوليني في إيطاليا، والدكتاتوريات العربية المتساقطة حديثا.

وإذا لم يكن القمع مقابلا ضروريا لفهم الديموقراطية، فإن الجهل بها ونقصان الاستعداد لها لا يستويان لبناء علاقة تعارض ضروري معها، لأن الحديث عنهما والرغبة في الخلاص منهما يتضمنان الوعي بها إيجابيا، فكيف يغدو جزء الشيء معارضا له وخارجا عن مفهومه!

والأمر أقرب إلى التصور حين نضرب لذلك مثالا من الفصل بين الممارسة وتعلُّمها؛ فكيف يتعلم المرء الكتابة من دون أن يمسك بالقلم؟! أو يتعلم السباحة من دون أن ينغمر في الماء؟!

وأتصور أن الموقع الإيجابي للديموقراطية في ذلك الجدل، سواء في وجهة الاحتجاج على مشهد «سلفي» بشأنها والنكير عليه، أم في وجهة التأييد له والتوافق معه، يرينا استدارة الفكر تبعا لطريقة نظره إلى موضوعاته.

إن موقع الديموقراطية في الجدل موقع إيجابي من وجهة إيديولوجية ترى فيها الاكتمال وتضعها في المركز الذي لا يكون مركزا إلا بنَصْبه في قبالة هامش عليه، وهذا يرينا استدارة الفكر على ذاته حين ينظر إلى موضوعاته على ذلك النحو الإيديولوجي المحدود أبدا.

فالديموقراطية لم تملك القيمة بذلك الحسبان، بل بما يعاكسه من شعور بالنقصان، وشعور مستمر بالأزمة، وهناك كلمة لجاك دريدا فيلسوف التفكيكية دالة في هذا الصدد، وهي قوله: «الديموقراطية ستظل دائما غير مكتملة... إنها مؤجَّلة باستمرار. ليست وضعا قائما أو حالة يمكن الانتهاء إليها، إنها مسار تقطع في إطاره الشعوب والدول درجات متفاوتة».

أن نأخذ الديموقراطية بدلالة تعني جاهزيتها واكتمالها، يعني أن نتوقف، وهذه دلالة استدارة الفكر على نفسه، وفقدانه القدرة على التجاوز. الديموقراطية لا تكون إلا منتقصَة، وحين نتوهم اكتمالها فإنها تخرج عن حقيقتها، بل تغدو ضدا لها.

لكن نقصان الديموقراطية وعدم اكتمالها باستمرار، ليس دافع تخلٍّ عنها بل تعلُّق بها، حتى وهي محتكرة لصالح تسلُّط برمزية معينة، على نحو ما كان في مشهد «سلفي» من وصف التسلط على نتائجها، واستنكار لعدم تعبيرها عن عموم الناس.

ذلك أن استمرار هذه الديموقراطية يكشف عن التناقضات والتصدعات والاختلافات داخل الأطر المحتكرة للانتخابات، وداخل حجرة التعصب، ويُفسِح للجديد الأكثر اعتدالا الذي يسنده الزمن ويمنحه قيمة وجدارة ومشروعية.