"لنتخيل القاعدة في المملكة كخط إنتاج، سنجد كثافة أمنية في نهاية الخط، قصص نجاح تترى، تفكيك خلايا، مخططات ومخابئ أسلحة تكشف، مصادرة أموال، إعادة تأهيل، جمع معلومات، اعتقال عناصر، نشعر بعدها بالاطمئنان، نشكر الله ثم رجال الأمن المستيقظين ...”.

هذه هي مقدمة لمقال كتبه الأستاذ جمال خاشقجي الأسبوع الماضي في "الوطن". فقد صور لنا وهو محق أن القاعدة تعمل ونحن نتفرج حتى يصل المنتج إلى نهاية الخط. وإما أن يتم القبض عليه وإما أن يفلت من أيدينا ويذهب ليخرب هنا أو هناك.

القاعدة تدير خط إنتاج بدون أن نتعب أنفسنا كثيراً في عرقلة الخط أو الاعتراض عليه في مرحلة مبكرة ما عدا محاولات المناصحة أو مناشدات لنبذ فكر هذه "الفئة الضالة" كما نسميهم. الجميل أن الزميل رسم الصورة كخط إنتاج ومن يسمع بداية هذا التصوير سيظن للوهلة الأولى أننا نتحدث عن قوم إنتاجهم عقاقير لتفادي الزهايمر أو محاليل لمكافحة السرطان أو للتخلص من داء السكر. الحقيقة المرة وبعيداً عن فكر القاعدة، أننا وعلى مستوى التنمية البشرية التي يتصل وجودها وجودتها مباشرة بهذه الظاهرة، لا ننتج شيئاً خلاف المواليد وهم بالمناسبة المادة الخام التي يمكن استغلالها في أي دور. ننتجهم بالملايين بدون أن نفكر في رعايتهم وتربيتهم ومستقبلهم. هناك شعوب تعمل وتجند شبابها وتعمل على ابتكار منتجات جيدة ومفيدة لتنميتها واقتصاداتها وهناك في الجهة المقابلة شعوب كما هي حالنا معنية فقط في إنتاج البشر. وأخيراً عندما بدأنا نستشعر خطر هذا الخام عندما لم نتمكن من الاهتمام به مبكراً وعندما أدركنا ضرورة الاستفادة منه تحولنا إلى مهرجين كما أشار الزميل جمال. اليوم نحن نستهلك الأيام والشهور والسنين في جدل عقيم لا يستفيد منه أحد. والتكاثر يستمر.. بشر وبشر وبشر والغالب الأعم منهم يعتبر على “باب الله”. لا خطط ولا برامج ولا من يحزنون.

السؤال حقيقة لماذا لم نتمكن من الاستفادة من هذه المادة الجميلة "الإنسان" لاسيما ونحن دولة فتية كنا وإلى عهد قريب نشعر بأن عدد السكان ضئيل ولا يتناسب مع حجم الوطن مساحة ومقدرات؟

إنه سؤال مؤرق ومزعج. ما الذي يقف حائلاً بيننا وبين صناعة الإنسان الخلاق المبدع؟ كيف نستهلك كل هذه المدد الزمنية في جدل وخصام أكثر ما يوصف أنه سخيف؟ الخطورة الأخرى أننا قد نجد عند نهاية هذا الجدل أن "الآليات" التي كنا ننوي استخدامها في بداية المناقشة "قبل سنوات" قد لا تصلح اليوم. وهذا بالتأكيد سيحدث فالصناعة ومنها صناعة وتنمية الإنسان هي في تطور مستمر وسريع الإيقاع. حتى الطرف الآخر المضاد توجد لديه تطور وابتكارات. كلنا يتذكر أنهم عندما لم يجدوا بدا من استعمالها لجؤوا إلى حشو الأحشاء بالمتفجرات للوصول إلى الأهداف. الواقع أن كل تأخير في بناء إنسان الوطن إنما يقع بسبب جهلنا نحن في ترتيب الأولويات وهو ما يؤدي بنا إلى هذا التهريج الممل والذي سيكلفنا من جديد عندما نتفق.. هذا إذا سلّمنا أننا سنتفق في يوم ما.

لكن ما هو خط الإنتاج الذي نفتقده؟ إنه خط بناء ما يعرف بالتنمية البشرية بالمفهوم الشامل. كما نعلم فإن العدو الرئيسي للقاعدة وما قد يعطل مشاريعها هو انشغال الناس بالتنافس والإبداع في وعاء ضخم من التنمية الاقتصادية والبشرية الكبيرة غير المسبوقة. هذه التنمية وبجانب المال تعنى أيضاً بحفظ الحقوق وزرع العدالة الاجتماعية وفرض النظام وتأصيل هيبته ومعاقبة من يتجاوزه. تنمية لا تبقي مواطناً عاطلاً ولا استثماراً بيد أجنبي إلا وكان للمواطن مساهمة أو نصيب منه. التنمية تعني وضع برامج محفزة وحلبات تنافس على المراكز الأولى في التفوق الإنساني العملي والأخلاقي. عمل الرجل والمرأة في المملكة هو القالب الذي سينتج هؤلاء. بلا عمل لن تقوم للأفراد لدينا قائمة. والعمل يحتاج بالطبع إلى استثمارات متنوعة تفرخ هذه الفرص الغائبة وهي الأخرى مع الأسف مفقودة.

إذاً فتساؤل الزميل جمال يصب في هذا المنحى تحديداً. إذ إنه يضع اللائمة على الجميع وهم يقفون موقف المتفرج أمام هذه الأدلجة ولا يحركون ساكناً. الذي أراه أن جهاز مكافحة الإرهاب التابع لوزارة الداخلية يكاد يكون الوحيد الذي صنع الرجال في مملكتنا الحبيبة وأنتج الإبداع الذي نحتفل اليوم بمنجزاته، لكنه وحده، ومع بالغ الأسف لا يكفي، ومن غير المعقول أن يتحول كل شباب الوطن وشاباته إلى موظفين في هذه الوزارة.

وللتذكير فقط أردد ما قرأته مرة على لسان سياسي كبير في الغرب لا أذكر من هو وقد استوقفني وهو أن الجماهير الغاضبة التي تخرج لقلب الأنظمة على مر التاريخ هي الجماهير التي لا يوجد لديها شيء تخاف عليه بعد خروجها. بمعنى أن مالك المنزل وكذا الموظف الذي يعمل ويتطلع إلى الارتقاء بمداخيله لا يخرج ولا يغامر بفقدان مكتسباته. هذا ما يجب أن نستوعبه. الباعث على الأمل من جديد أن خط الإنتاج المنشود هو خط معروف لمن يريد الاستفادة منه ومجرب أيضاً في مجتمعات مشابهة لمجتمعنا. كل الذي نحتاج إليه لا يتعدى خطة عمل واضحة وإدارة صارمة في الإنتاج بحيث تتم معاقبة المقصر أو المستغل أو المرتشي أو الغشاش أو صاحب النوايا العدوانية الذي يسعى إلى تعطيل الحراك. أما الظن بأن تحركنا نحو البناء قد يشجع بعض التطرف هنا أو هناك فهذا غير صحيح. القاعدة ستجد العذر للتجنيد مهما تنازلنا والتنمية البشرية المتكاملة وحدها هي التي ستحاصرهم. والمنتصر في النهاية هو من يحمل راية البناء وليس من يخطط للهدم والتخريب وسفك الدماء.