البيت الخليجي بكل ما فيه من ثقافات وعادات، بكل ما فيه من قبائل وعوائل ومدن وقرى، بكل هذا التنوع المتناثر هو بيت يتسم بالمسالمة والوفاق، بيت تشيع فيه الألفة والتناغم، الحُكم في هذا البيت رشيد ولم يكن يوماً عضوضا، والشعوب في هذا البيت مطمئنة وليست ثائرة، والمواطن يتنقل داخل هذا البيت من مدينة لأخرى دون أن يتغير عليه الشيء الكثير، يتواجد في «المنامة أو الرياض أو الدوحة أو مسقط»، وأينما تواجد فسيجد أمامه نفس الطباع والعادات، نفس الكرم وحسن الضيافة والجيرة، إن العلاقة داخل هذا البيت أقرب ما تكون إلى العلاقة الأسرية التي لا تخلو بطبيعة الحالمين من المشاكسات والمناكفات واختلاف وجهات النظر.

وبيئة بهذه الخصائص والصفات، بهذه المزايا والهبات الربانية هي بيئة طاردة غير ملائمة أبداً لثقافة المصادمة والمواجهة، إن ثقافة الخليج لا تتناغم أبداً مع طبول الحرب والاعتصامات والثورات، فلم يمر مستعمر غاز من هنا، ولم يمر حاكم متجبر حكم بالحديد والنار، الحاكم كان ولايزال أباً راعياً من طينة هذه الأرض، والمواطن كان ولايزال يرى الحاكم رمزاً يجب الالتفاف حوله، وثقافة تتشكل في هذه الأجواء من الطبيعي أن تكون مسالمة متصالحة، وبعيدة جداً عن المواجهات والصدامات، ومن الطبيعي أيضاً أن يُنظر إلى مفاهيم كالممانعة والمقاومة والتصدي وحتى الجهاد المسلح على أنها مفاهيم غريبة لا علاقة لها بهذه الأرض.

لكن كل هذا لا يعني ضرورة انعدام المشاكسات والمشاحنات، لا يعني ضرورة توحد الآراء والأهداف على طول الخط، بل توجد اختلافات وتنشأ نزاعات وتتعارض الآراء، وهذا الأمر يحدث حتى داخل القبيلة الواحدة وحتى في الأسرة الواحدة، وقد مر البيت الخليجي بالعديد من العواصف والمحن، وتجاوزناها بسلام لأن روابط الدم والأرض والدين دائماً ما تسحب الجميع لمنطقة الطمأنينة والوفاق من جديد، ولأنه رغم كل المشاحنات لم يصل الأمر أبداً إلى العداوة والغل والحقد الدفين، ولن يصل –بإذن الله-، وهذا ما لا يفهمه الآخرون الذين تشكلت ثقافتهم في بيئات الحرب والدمار والفوضى، الذين حين انزاح عنهم الاستعمار جاءهم حاكم لا يعرف سوى لغة الحديد والنار.

إن بيئة الحروب والقلاقل تختلف عن بيئة السلام، والثقافة الناتجة عن الصدام والمواجهات لا يمكن أبداً غرسها

في البيئة الخليجية، حتى الإسلام في بيئة الحرب لا يتناسب أبداً مع بيئة السلام، فإسلام بيئة الحرب إسلام جهادي مسلح، إسلام يتعامل مع العلماء الذين يوافقون السياسي أنهم «علماء سلطان»، ومع السياسي الذي يراعي آراء العلماء أنه يستغل الدين، إنه إسلام تم تشكيله بالحديد والنار، ومر على كل الزنازين ولاحقته أجهزة المخابرات، فكان من الطبيعي ألا يرث من الإسلام الحق إلا السيوف والرماح وصيحات القتال، وهكذا تختلف المفاهيم جذرياً بين الثقافتين، فانحناء مواطن لتقبيل رأس الحاكم تفسره ثقافة المصادمة أنه مهانة، بينما يتم تفسيره في بيئة السلام أنه من التوقير والاحترام.

حسناً، قد حدث مراراً ويحدث اليوم أن البيت الخليجي يمر بفتنة وابتلاء، بضوضاء وصخب، ولا شك أن كل هذا سينطفئ سريعاً كما اشتعل بشكل مفاجئ، ستمر العاصفة وسيعود الأشقاء وكأن شيئاً لم يكن، ومن يراهن على استمرارية الفتنة فهو لا يعرف الخليج ولا أهل الخليج، سيمر كل شيء وينقضي، وسنحمد الله أن الفتنة انطفأت، وسنحمده على عودة الوئام، وسنحمده أيضاً أن ابتلانا بفتنة عرفنا من خلالها مواطن الخلل، عرفنا من خلال الفتنة أن البيت الخليجي اليوم في حاجة إلى تنظيف شامل.

إن «فتنة قطر» التي حزت في صدورنا حملت لنا الخير الكثير، فلولا هذه الفتنة لما عرفنا أن بيننا كائنات تقتات على الفتن والمحن والبلايا، لما عرفنا أن في بيتنا الخليجي أناسا أغرابا جذبهم إلينا هذا الرخاء الاقتصادي،

فتوافدوا من كل صوب لا ليستقروا ويسهموا في البناء، إنما ليحولوا هذا البيت إلى ساحة حرب وفوضى تتناسب مع ثقافتهم التي تشكلت في بيئة الحروب، وتحت وطأة الحُكم العسكري الغاشم، دخلوا الخليج ولم يخلعوا ثقافتهم في الخارج، إنما جلبوها معهم لا لشيء إلا لتوسيخ هذا البيت.

«فتنة قطر» وضحت لنا جلياً أن كثيراً ممن يطل علينا عبر الإعلام بصفته إعلاميا أو مثقفا أو محللا استراتيجيا، بصفته إسلاميا أو ليبراليا أو إخوانيا، بصفته مفكراً حراً لا يستطيع أن ينتقد السائق الخاص بأحد أعضاء البرلمان في بلاده، فيأتي ليزأر فينا شتماً وتخوينا، بأن هذا وأمثاله ليسوا إلا مرتزقة، والمرتزق يشتم الإخوان اليوم وغداً سيشتم العسكر، يشتم هذا البلد الخليجي اليوم وغداً سيشتم البلد الآخر، وسيشتم الدين والخلفاء الراشدين إن دُفع له المبلغ المناسب! إنه كائن يقتات على المعارك والفتن، وأينما وجدت فتنة فسيرقص طرباً، فالفتنة بالنسبة إليه لا تعني إلا مبلغا محترما آخر الشهر.

لابد من تنظيف البيت الخليجي، والإعلام الخليجي، ومراكز البحوث والدراسات في الخليج، لابد وألا يتم السماح لدولة في الخليج أن تفتح أبوابها لكل ناعق، فالمعركة التي يخوضها الخليج اليوم بقيادة السعودية هي معركة ضد الفوضى التي حلت بالوطن العربي، والعدو ليس فقط «إيران»، رغم أنها الفاعل الأكبر، فهنالك الإخوان والقوميون ومثقفو عرب الشمال، وهنالك خليجيون قاموا بتبني كل هذا الخبال، هنالك ألف مرتزق داخل البيت الخليجي سيحاول جاهداً أن يُبقي كامل الوطن العربي في حالة فوضى كي يجد ما يقتات عليه.