التحولات الإنسانية الفكرية التي حدثت خلال العقد الأخير لا تضاهيها تحولات العقود الماضية، وقد انكشف العالم منذ ظهور الشبكات الاجتماعية قبل نحو 12 عاماً، فنقلت الإنترنت إلى مرحلة جديدة في الاستخدام الشعبي، وتقدمت بالتجارة الإلكترونية والنظم السياسية والاجتماعية لنصبح في عصر جديد، تسيطر عليه المعلومات الشعبية.
البداية المحورية الأولى كانت من خلال شبكتي «فيسبوك» والتي أطلقت عام 2004 ثم «تويتر» في 2006 بصفته التدوين المصغر، وقبل الشبكتين فقد كانت هناك بداية متواضعة مع المدونات التقليدية المقالية في نحو عام 2000 على أيدي التقنيين الأميركيين، وبرزت أهمية هذه المدونات سياسياً مع حملة الاعتراض على احتلال أميركا للعراق عام 2003 كوسيلة معارضة لمدونين مستقلين عن الإعلام الأميركي المسيس، لذلك نجد أن استقلال الرأي في الشبكات الاجتماعية عن الإعلام الرسمي حدث في أميركا قبل أن يحدث في أي دولة أخرى.
التأثير الأكبر والذي قدم الشبكات الاجتماعية كوسيلة تحول ثقافي وسياسي وحتى اقتصادي بدأ مع الشبكتين «فيسبوك» و«تويتر»، ومعهما «يوتيوب» الذي ساعد على التصوير الحي للأحداث، وذلك في أواخر عام 2010 وبداية عام 2011 مع أحداث ما سمي بالربيع العربي، ومع زلزال وتسونامي توهوكو 2011 في اليابان. وقد استخدم تويتر في أحداث اليابان كوسيلة للتنسيق والتواصل بعيدا عن الإعلام الرسمي الذي حاول السيطرة على حالة الذعر بين الناس، وهو توجه سياسي حكيم في أوقات الأزمات، غير أنه لم يمنع من انكشاف حالة الذعر شبكياً. أما أحداث الربيع العربي فقد تفجرت شرارتها من الشبكات الاجتماعية كوسيلة للتنسيق والتواصل والاستقطاب والحشد الجماهيري، وقد تورطت الأنظمة الأمنية في تجاهل تأثيرها، حتى بدأت قناة الجزيرة تحديداً بصفتها الإعلام الرسمي أو التقليدي الموجه، بتبني الأحداث وخاصة أحداث مصر بصفتها الدولة المحورية حتى تلك الأوقات، وقد كان ذلك عبر مجموعة من الأعمال الإعلامية والتي قامت على الاستقطاب والتجييش العاطفي والغنائي.
في السعودية برز تأثير الشبكات الاجتماعية للمرة الأولى بعد توجه فئة من الدعاة إلى تويتر خاصةً باعتبار الشبكات الاجتماعية منبراً جديداً للدعوة والوصول إلى الجماهير بعد أن كان الإنترنت لكثير من الدعاة إما حراماً أو منبوذاً أو سطحياً، غير أن البداية الأولى للشبكات الاجتماعية السعودية كانت من خلال المهتمين بالتقنية والتدوين وبعض الإعلاميين المعاصرين، وقد بدأ التأثير الشعبي السعودي
في عهد الملك عبدالله رحمه الله، عبر ارتفاع مساحة حرية التعبير سواء في الإعلام الرسمي أو الشبكات الاجتماعية والتي تحولت معها الأخيرة وحينها فقط إلى منبر شعبي مؤثر ووسيلة لإبراز المطالب التي استجابت لها الدولة لعدة مرات في سبيل التغيير، وخاصة بعد بروز دور المدونين في تسليط الضوء
على أخطاء ومشكلات تنموية واجتماعية، والأهم من ذلك دورها في الرقابة الشعبية، كما ساعدت على انكشاف التوجهات الوطنية.
رغم الكثير من التضليل والخداع الذي صاحب الإنترنت وصعوبة التعرف على هويات المدونين ودور الحشد في صناعة الوهم والتحزب للفكرة الواحدة إلا أن ذلك لم يمنع أيضاً من حدوث تغيرات عكسية متسارعة في الآراء.
لقد واجهت السعودية كغيرها تحديات جسيمة مع الشبكات الاجتماعية، فقد كانت وسيلة لظهور أشكال من تنظيم التجمعات والتنسيق بين دعاة الإرهاب، كما أن دعاة تخريب الدولة تبنوا عدة حملات كبرى وعلى رأسها ما سمي بثورة حنين والتي ثبت لاحقا أنها حملة تبناها المحور الخارجي المعادي للدولة،
وقد ثبت ذلك بشكل أوضح بعد فشلها على أرض الواقع.
ورغم قوة تلك الحملة على الشبكات الاجتماعية، ورغم استمرارها لاحقاً ولعدة سنوات في قضايا أخرى وجاء بعضها تحت أكذوبة النشاط الحقوقي، فقد انتهى كل ذلك بصعود الوطنية والتي تبلورت بشكل بارز مع مناورات سيف عبدالله الأولى من نوعها ليشتعل وسم #سيف_عبدالله، ولتصل تلك الروح إلى ذروتها بعد نحو عام مع #عاصفة_الحزم.
الشبكات الاجتماعية أدت أيضا لانكشاف رذائل المجتمعات وبروز دعاة السطحية والتهريج وتحول المراهقين إلى مؤثرين، وأسهمت في نشر الإباحية، وهذا يشمل كافة المجتمعات الإنسانية باعتبارها أزمة عالمية تعبر عن اهتمامات شريحة كبيرة من العوام، وهو ما يفسر أيضا حالة تدهور الفن الغنائي الذي كان يستهدف النخب على الصعيد العربي، فبعد تطور وسائل الإعلام والتواصل وتحول الفن إلى بضاعة تجارية، ظهرت الشيلات والأغاني العربية السطحية، وانجرفت لها بعض النخب الفنية بهدف الاستمرار في الساحة.
على صعيد الأعمال الجنائية فقد زاد التواصل والتنسيق لتعلم وسائل ارتكاب الجريمة والعكس من ذلك، فالرقابة الشعبية على الجريمة والفساد والغش التجاري أدت دوراً إيجابيا، وكل ذلك أدى إلى تطور القوانين، وخاصة فيما يتعلق بأنظمة الجرائم المعلوماتية، وقد كان دخول مؤسسات الدولة السعودية إلى الشبكات الاجتماعية أفضل خيار بديل عن الحجب، سواء كان ذلك من خلال الحسابات الرسمية التابعة للدولة أو من خلال دعم الحسابات الشعبية الشهيرة، وجعلها وسيلة لضبط الأمن المعلوماتي.
ورغم ذلك فلا تزال الشبكات الاجتماعية وعلى رأسها «فيسبوك» و«تويتر» بمثابة وسائل إعلامية واستخباراتية أميركية، ولا يمكن في الوقت الحالي أن تتضرر منها أميركا بقدر الضرر الذي يلحق بالدول الأخرى، ولذلك قامت الصين بحظرها مع استبدالها بشبكات داخلية، وشمل ذلك حتى محرك بحث جوجل وموسوعة ويكبيديا وغيرهما، ورغم التعاون الأمني النسبي بين تلك الشبكات الأميركية وبين كافة دول العالم ومنها السعودية إلا أنها تظل تحت سيطرة وتحكم المؤسسات الأميركية سواء فيما يتعلق بالسيطرة على المعلومات الثقافية والسياسية أو الاستخباراتية، فقد ساعدت على تطوير وسائل التجسس وتقليل التكاليف والجهود المبذولة استخباراتياً، إضافة إلى النفوذ التجاري الأميركي العالمي الضخم، والذي يستمر من خلال نفوذها الإنترنتي. ولم ينقلب السحر على الساحر على الصعيد الإعلامي وبشكل نسبي في أميريكا إلا مع دونالد ترمب، والذي حاربه وتجاهله الإعلام الأميريكي الرسمي فاستعان «بتويتر» ومعه «يوتيوب» لينجح في تأسيس قاعدته الجماهرية الشعبية، وهو الذي صرّح بعدم نزاهة الإعلام الأميركي الرسمي، وقد تورط هذا الإعلام في أواخر الحملة الانتخابية بإبراز المقاطع الساخرة من ترمب، وكان ذلك بهدف اغتياله معنوياً غير أن ذلك أدى إلى نتيجة عكسية عبّرت عن نقص الثقة بالسلطة.
على صعيد الكتب فرغم استمرار حظر الكتب رسميا إلى حد ما، وهو ما يمثل عدم الاعتراف الرسمي إلا أن ذلك أدى إلى نتيجة عكسية في التمرد المعلوماتي، وظهور شكل جديد من الكتابات المقاومة لذلك الحظر، أدى بدوره إلى نتائج إيجابية وسلبية، تمثلت الأولى في تقدم الوعي والاطلاع وسعة الأفق، وتمثلت الثانية في زيادة حدة الصراع، ولم يمنع الحظر في نهاية المطاف من انتشار الكتب والأفكار الممنوعة.
أدت الشبكات الاجتماعية إلى انكشاف حقائق معظم المذاهب والمعتقدات والتوجهات أمام الجميع، كما أن الوسائط الجديدة للمعلومات غيرت وسائل الاطلاع التي كانت تسطير عليها الكتب أو المقالات المطولة، سواء كان ذلك من خلال التدوين المصغر، أو مقاطع الفيديو القصيرة أو الطويلة أو الصور والإنفو جرافيك، فأصبحت الفئات الأقل اهتماماً بالمذاهب والمعتقدات والتوجهات، أمام سيل من المعارف الصادمة لمسلماتهم الموروثة. وهو وصول إلى معلومات لا يبحث عنها المستخدم تؤدي إلى تغيير نسبي أو جذري في أفكاره.
تكيف الشباب السعودي ذكوراً وإناثاً مع الهوية العالمية عبر الشبكات الاجتماعية، أسهم إلى حد كبير في زيادة الانفتاح، وذلك مع حساب العوامل الأخرى كزيادة التعليم ومشروع الابتعاث وغيرهما.
أسهمت الشبكات الاجتماعية أيضاً في خلق فرص عمل جديدة عبر التجارة الإلكترونية، وفي إنجاز مختلف الأعمال مع خدمات العملاء في كافة الشركات، وأسهمت أيضا في بناء أسواق جديدة كصناعة الهواتف الذكية وتحول المجال الرقمي كأحد أكبر الصناعات من حول العالم وأكبرها استقطابا للوظائف الجديدة والمهارات المتقدمة، وأسهمت في التطور المهني من خلال التعرف على القوى العاملة كشبكات «لنكندن» و«يامر»، والأخير بدوره أدى إلى إحداث تغييرات داخل الشركات من خلال صعود صوت الموظفين، وخاصة موظفي الخطوط الأمامية، فضلا عن مواقع التوظيف ودورها في إحداث تغيير عالمي لثقافة العمل وتعزيزها لحالة الهوية متعددة الجنسيات للشركات.
أسهمت الشبكات الاجتماعية أيضا في ارتفاع مستوى الذكاء البشري، وذلك من خلال امتلاك معلومات جديدة وزيادة الحاجة لتحليل المعلومات ورفع مستوى الاستنتاج، وفي نفس الوقت فقد كانت سهولة الوصول إلى المعلومات من خلال محركات البحث وسيلة لضعف الاستنتاج إلا أن كلاً من الكم المعلوماتي والمعلومات النوعية سبب إيجابي في الرفع من مستوى التحليل والاستنتاج وارتقاء الذكاء البشري.
مثلت وسائل التواصل حافز للقضاء على الأمية عند كبار السن، مما ينعكس على فاعليتهم في المجالات المدنية، وزيادة تطور وعيهم النسبي في الوصول إلى المعلومات، وقد تغيرت أشكال التجمعات الإنسانية، فرغم قلتها كما يبدو لنا، إلا أن مجموعات «واتساب» على سبيل المثال، ساعدت على أشكال جديدة من التعارف واللقاءات والتجمعات النوعية، وهي ذات تأثير أكبر من التجمعات التقليدية السابقة، والتي كانت في نطاق عدد محدود وأقل تنوعاً.
لم يكن تأثير الإنترنت ممثلا في محورية الشبكات الاجتماعية سلبيا ولا إيجابيا، إنه مرحلة جديدة من تقدم وسائل الوعي البشري وانكشاف العالم، فرضت علينا التعامل معها كأداة حيوية ترفع من مستوى تطلعاتنا وتحدياتنا وقدراتنا في التكيف مع المتغيرات، فقد نقلتنا من مرحلة تحريم الإنترنت إلى مرحلة استخدامه للدعوة، ومن مرحلة سيطرة الفكرة الواحدة إلى مرحلة التحدي، كما أننا قد ننتصر مؤقتاً أمام التغيير، ولكن هذا لن يحدث أمام حركة التاريخ والتي تسحق كل من يعاديها.
إنها مرحلة جديدة من الهوية العالمية المتغيرة والمستمرة في التطور والقائمة على النقاش الواعي والثراء المعرفي، فعلينا ألا نكل أو نمل في هذا التنافس المحموم والمستمر والقائم على معايير القوة والكفاءة وتطور المهارات وامتلاك المعرفة وسعة الأفق وانكشاف العالم وقبول التحديات، فحتى الإرهاب سوف ينتهي لعدم صلاحيته، وحتى الأنظمة الظالمة لشعوبها سوف تسقط لعدم قدرتها على البقاء والتكيف، وسوف نصل إلى مراحل تقدمية حتمية لن تخلو من مواجهة الفشل والاستبداد، وقد استطاعت السعودية شعباً وحكومة حتى الآن أن تتكيف مع انكشاف العالم عبر الاستجابة لأكبر قدر من التغيرات ومازالت تتقدم، ولن تستمر في هذا النجاح إلا إذا وازنت بين المتغير وبين الثابت، بين التيار الحداثي وبين التيار المحافظ مع استمرار التلاحم الوطني ومواجهة انكشاف العالم عبر الانشغال بالعلم والتنمية.