الفقه بمعنى الفهم يؤكد ارتباط المسألة بملكات العقل المرتبطة بالتطور المحيط بها، ولهذا فالمقارنة بين علم أصول الفقه وما فيه من مصطلحات المتكلمين والمناطقة مع ما في عهد النبوة من تلقائية في التعاطي مع النص في حدود إمكانيته وترك الباقي للاجتهاد العقلي الفطري (المقاصدي) يؤكد تاريخية الفقه الذي
لا يتعالى على الواقع، بل هو جزء منه، فإن حاول التعالي عليه، كان مفارقا للمصلحة الإنسانية التي تقرها البشرية وتنجذب إليها على اختلاف مللها ونحلها، فعلم أصول الفقه بعد تشكله مقارنة بحديث معاذ الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم قاضيا ومعلما، والمتضمن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأله: (ماذا تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: (فإن لم تجد في كتاب الله) قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو ــ أي لا أقصر ــ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدر معاذ، وقال: (الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) وقد تلقت الأمة كما يقال هذا الحديث بالقبول لتجده في كل مدونة من مدونات علم أصول الفقه، ورغم ما في هذا الحديث من دلالة ظاهرة تخالف ما كرسته قرون طويلة من ربط الفهم التداولي للنص بالحقيقة المطلقة، بدلا من ربطه بالمعنى المحتمل ونسبيته، لنرى داعش وأشباهها في هذا الزمن تنشغل بقطعياتها الخاصة في حقيقتها الدينية، عن مقاصد الدين في معنى النص، فالدوغمائي يعيش قطعية الحقيقة رغم أنها نسبية لما في الفهم الإنساني من نقص، فالفهم المطلق للحقيقة لا يكون إلا لنبي، وبموت الرسول الكريم، انتهت دعوى الفهم المطلق للحقيقة، إلا لأدعياء النبوة وأمثالهم من الأحبار والرهبان والذين مارسوا هذه الإشكالية وحذر منها الرسول الكريم في حياته، في من اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ولهذا صدق ابن عربي عندما قال: (ليس في العالم مرض يحتاج إلى علاج، بل هناك تعصب يحتاج إلى التواضع).
وعليه فمن حق الإنسانية أن تعيش روحانيتها الخاصة وفق المعنى المفتوح للنص، والذي جعل الرسول في عهد النبوة يمتدح معاذ على اجتهاده ما دام (لم يجد في كتاب الله ولا سنة رسوله) وفي هذا دلالة على (كمال الدين) ورد على الإسلاميين في دعوى (شموليته) لنجد في زمن مضى (الشقق الإسلامية المفروشة، والقهوة الإسلامية، وشريط الكاسيت الإسلامي، والبنك الإسلامي)، وما زلنا نعيش حتى هذه اللحظة عبارة (القناة الإسلامية، والمجلة الإسلامية)، فهل غيرها من قنوات ومجلات، (غير إسلامية) مع ما يترتب على ذلك، من أحكام قد يختلقها الإسلاميون حول جواز العمل في هذه القنوات والبنوك، وغيرها من تساؤلات تزيد الناس حرجا وعنتا في دينهم لمرحلة نرجو أننا تجاوزناها لغير رجعة، ويبقى السؤال: لماذا لم يذكر معاذ مناط الأحكام التي تداولها علماء الأصول من مفردات علم الكلام والمنطق؟ نحو (القياس والاستحسان والاستصحاب، كعناوين كبرى، أو الخاص والعام والمجمل والمفصل والمقيد والمطلق وتحقيق المناط وتنقيح المناط إلخ من تفاصيل صغرى)، وهل معاذ رضي الله عنه، قضى باجتهاده وفق معطيات عصره، بينما الشافعي درس وفق معطيات عصره المنفتح على علوم المتكلمين والمناطقة فكان أن رأينا في معاذ لغة ومعطيات عصره، ورأينا في الشافعي ثقافة زمنه، فلماذا نتجاهل ما في زمننا هذا من علوم ألسنية حديثة، تجعل بعض اللغويين بالمعنى الحديث، مكسبا عظيما وإضافة حقيقية لعلم أصول الفقه والتفسير وغيرها من علوم دينية، تكاد تقرر في دلالاتها اللغوية ما كرسه سيبويه من علم النحو الذي تناغم مع الفقه والتفسير أخذا وعطاء، رغم أن النحو بشكله الكلاسيكي إلى هذا التاريخ لا يقوّم اللسان على النطق، بقدر ما يجعل المرء محلل مختبر للجملة العربية، أما فصاحة اللسان فلم تكن تطلبها العرب قديما عن النحويين بل عند قبائلها العربية لتفتق لسان أبنائها على عربية أصيلة غير منتحلة، فاللسان العربي حجة على النحو، وليس كما هو حاصل الآن من سيادة النحو على اللسان العربي، رغم قناعتي الذاتية غير التبجيلية أن ابن البادية في بعض قبائل الجزيرة العربية أفصح لسانا من أساتذة النحو الذين يتكلمون العربية بشكلها (الصناعي المتقعر) الخاص بالتداول الرسمي الثقيل على السمع، وليس بسليقتها الخاصة بالتداول الفطري الأصيل الخفيف على الأذن، لكن من يتذوق ومن يفهم؟!.