الثقافة هي نتاج مجموعة من العناصر المتراكمة، ذات العلاقة بالعادات والتقاليد، ومن ضمنها الفولكلور والفنون والمعتقدات. والحديث عن الثقافة العربية لا يحمل معنى متضمنا بخصوصيتها عن الثقافات الأخرى، وبكونها عصية على التغيير. فالحركة قانون عام، لا يشمل بيئة بعينها، ويستثني أخرى، وإن كانت سرعة الإيقاع تختلف بين مجتمع وآخر، تبعا لعوامل موضوعية وتاريخية، لا يمكن للباحث تجاوزها عند تناوله أيا من الثقافات بالقراءة والتحليل.
الثقافة العربية، بشكل عام، هي نتاج واقع مأزوم، تعطلت فيه مراحل النمو، لأكثر من سبعمائة عام، منذ احتل المغول عاصمة العباسيين، وأغرقت مكتبة بغداد. ولتتناوب على البلدان العربية، حملات غزو أخرى، انتهت بهيمنة سلطان الاستبداد العثماني، وطفوح المياه الآسنة، وغلبة الشعوذة والجهل على التجربة والعلم.
وحين برزت حركة اليقظة العربية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم تكن هذه الحركة، نتاج تطور تاريخي، بل كانت صدى واهنا لأفكار وافدة، لم يتمكن قادة النهضة من توطينها. واصطدمت وهي لما تزل بعد يافعة، بجنازير الدبابات والمدافع الغربية. وفي صخب العجز عن التصدي والمواجهة للمحتل الجديد، تاه التمييز بين حداثة الغرب ومبادئه، والتطورات الفكرية، التي حملها، والتي باتت مطلبا كونيا، وبين عنف المحتل. فكانت النتيجة العودة بقوة، لفكر ما قبل الحداثة، وتأجيل مشروع النهضة، إلى مراحل لاحقة، لم تجد حتى هذه اللحظة آفاقا مفتوحة لها، بسبب تغول الاستبداد وتجريف الحياة الثقافية، في المشهد العربي بأسره.
ذلك لا يعني عدم وجود استثناءات لهذه القاعدة، ولكن تمظهرها لا يشي بأي أفق للخروج من الانسداد التاريخي، الذي لازال يلقي بكلكله على معظم مظاهر الحياة، في مجتمعنا العربي، الذي فقد مناعته، وبات مهيأ للتشظي والسقوط في واد سحيق.
يحدث ذلك رغم الانتقال إلى واقع التمدين، وليس المدنية. لأن التمدين هو اقتباس في الشكل، وهو في أحسن حالاته استنساخ مشوه، أما المدنية، فهي التعامل مع الأفكار، واقتناء لبوسها، بوعي ومقدرة على التماهي معها ومع قوانينها وآلياتها. ولم يكن ذلك بالممكن، من غير الانتقال فعليا، من حال إلى حال. وفي مقدمة ذلك إعادة تشكيل الهياكل الاجتماعية، وبناء أسس الدولة الحديثة.
لقد تمظهرات ثقافتنا القديمة، لكنها بقيت راسخة في العمق بمنظومة قيمنا، التي لا تزال بعيدة عن التسليم بالعلم الحق والعمل الحق، والالتحاق بالعصر الكوني الذي نحياه.
ثقافتنا في حيرة بين الأصالة والمعاصرة، وبين الشك واليقين. نشك حيث يجب أن نتيقن، ونتيقن حيث يوجب الشك. تهيمن على سلوكنا الخرافات والخزعبلات، ونرتعش خوفا من السحرة والمشعوذين، الذين لا يملكون من أمرهم شيئا، والذين جعل العلم الحق منهم، شيئا من الماضي، العاجز والمقيت. وتسودنا الشكوك في منجزات العلم، في كل مجالاته الحية، من كيمياء وفيزياء وجبر وعلم أحياء، وليس فقط في النظريات العلمية الفلسفية.
مفكرونا يعيشون ثقافة الاستقراء، وليس ثقافة التجربة. علاقتهم بالعلم علاقة تلقين وليست علاقة تحليل وتفكيك وإعادة تركيب. ومفاهيمهم للأنا والآخر متبلدة ومتكلسة. في الاستقراء، هناك إخضاع قسري للمنجز العلمي، ليكون جزءا من تركيبة الثقافة الراكدة. وفي التجربة تفتح أبواب الكشف العلمي والإنساني على مصراعيها، من غير حدود.
في ثقافتنا تعميم للاستشراق والتغريب، وانفصام في الرؤية لما حولنا من الحضارات. نقتبس كل شيء، ونرفض في الآن ذاته كل شيء. ونتعامل مع نتاج الاستشراق كله، ككم مهمل، ولكننا بأثر رجعي، نعود له عودة النفعي أو العاجز، حيث لا يتوفر في مكتباتنا بديل عنه. وحين نعود لذلك، فإن الرجعة تكون بحماس منقطع النظير، رجعة مصابة بالعمى فلا نعود نميز بين الغث والسمين.
وفي كل هذا نتناسى أن تعبير الأنا والآخر، هو تعبير نسبي، قابل للأخذ والنقاش. فمن يضمن أن لا يكون الآخر بين ظهرانينا ومن أبناء جلدتنا، وأن الأنا قد يكون قابعا بعيدا عنا آلاف الأميال، ولكنه يقف معنا ويتفهم قضايانا، ويناصرها حيثما أمكنه ذلك.
ومن يتابع ما يجري من تعاطف متصاعد مع القضية الفلسطينية في القارة الأوروبية، والغرب عموما، ومن يراقب ما يجري من صراع محتدم بين الفلسطينيين أنفسهم، على وهم السلطة... بين رام الله وقطاع غزة، والعجز عن التوصل إلى برنامج كفاحي يضمن الحقوق، ولو في الحدود الدنيا، يتأكد له أن الأنا يمكن أن يتواجد في آخر زوايا الكرة الأرضية، وأن الآخر، يمكن أن يجثم بقوة في صدورنا، وفي أنسجتنا وخلايانا.
وهكذا تتسبب النظرة الضيقة في مراكمة الخصوم، بدلا من مضاعفة خانة الأصدقاء. وتضيع علينا فرصا كبيرة، كان بالإمكان استثمارها لخدمة قضايانا العادلة.
القضية ليست استبدال مفهوم بمفهوم، أو تعديل هنا وتشطيب هناك. فما تحتاجه ثقافتنا هو معالجات جذرية، تخرج بنا من نفق الأزمة الراهنة. وفي المقدمة من ذلك تجاوز غربتنا التاريخية، وتحقيق المصالحة بين الجغرافيا والتاريخ. ولن يكون بإمكاننا أن نتحول إلى ترس فاعل في المسيرة الإنسانية، الصاعدة إلى الأمام، إلا بخلق آليات وهياكل جديدة، وتحقيق الإصلاح بكل ما يحمله ذلك من معان، وبناء الدولة العصرية، دولة المؤسسات، وجعل كل أطرها في خدمة الإنسان.