رغم غياب التجنيد الإجباري، ورغم غياب حرب وجودية مصيرية مباشرة في الوقت الحالي مع جيش حديث ومنظم، ورغم عدم وجود أي أطماع توسعية للمملكة، إلا أن القوات المسلحة السعودية ضمن أول عشرة جيوش في تعداد القوات المسلحة العاملة مقارنة بالتعداد السكاني لكل ألف مواطن، كما أن القوات المسلحة السعودية بكافة أفرعها تملك أكبر عدد من المتطوعين، وقد تضاعف العدد بمراحل بعد عاصفة الحزم وبدأ يناهز النصف مليون للقوى العاملة فقط لإجمالي القوات المسلحة، وذلك حسب آخر التقديرات دون الاحتياط والصالحين للخدمة العسكرية، ويمكن أن تتضاعف بشكل أكبر عند النداء، أما إجمالي القوات المدنية والعسكرية وشبه العسكرية فهو يتجاوز المليون.
التجنيد الإجباري ليس ضرورياً وليس رفاهية وليس له أي جدوى في الحالة السعودية، وقد أثبت فشله في معظم الدول، أما تطبيق دولة الكويت الشقيقة للتجنيد الإجباري فهو بسبب معطيات فرضتها الظروف والتحديات التي تواجهها المنطقة مقارنة بالتعداد السكاني الكويتي وحجم قواتها المسلحة ونقص المتطوعين، غير أن ذلك لا يعكس ضرورة نجاحه.
من حجج دعاة تطبيق التجنيد الإجباري هو القضاء على ظاهرة الميوعة بين فئات من الشباب، وهو ادعاء عشوائي، فهذه الظاهرة عالمية وتنحصر في فئات محدودة، والغالبية العظمى من شبابنا طبيعية، وهناك فئات من المراهقين قد تمر بمرحلة زمنية عابرة ثم تتجاوزها لاحقاً، وهناك فئات نادرة جدا تصل في ذلك إلى مرحلة المرض، ولكن التجنيد الإجباري لن يقدم لها العلاج، بل سيتفاقم معها المرض، فالتجنيد الإجباري ليس علاجاً سلوكياً، وقد ثبت أنه قد يؤدي إلى نتائج سلبية كبيرة بسبب استقطاب شباب غير صالح للخدمة العسكرية، وقد يمثل بعض المجنّدين نقطة ضعف في الجيش، بل وقد تتفاقم الأزمات النفسية لكافة الفئات المجبرة على التجنيد كما هو معروف عن بعض الجيوش المجاورة عبر بناء جيش بلا روح قتالية، وهو ما حدث مع الكثير من المجندين الأميركيين الذين لم يكونوا حتى قادرين على المواجهة عند غزو العراق وأفغانستان.
التنوع الإنساني ضرورة، فبعض الشباب غير الصالح للخدمة العسكرية قد يقدم للوطن الكثير من مواقع أخرى، فمن مساوئ التجنيد الإجباري والتي نرى شواهدها من حول العالم هو إجبار الكفاءات العلمية أو المهنية في مجالات غير عسكرية على الخدمة العسكرية، مما قد يكون سبباً في تضييع عام أو عامين أو حتى ستة أشهر من مسارهم العلمي أو المهني أو الوظيفي، وهو ما يؤدي إلى نتائج لا تخدم التنمية، كما أن التجنيد الإجباري مكلف اقتصادياً مقارنة بالجدوى، فمن البديهي والراجح أن تلك التكاليف الكبيرة يمكن توفيرها بهدف تقديم المزيد من التدريب والتمكين للكفاءات العسكرية الراهنة، وهو أجدى من الاستعانة بالكتل البشرية والمراهنة بحياة أفراد غير صالحين للحرب، فهناك جيوش صغيرة مدربة على أسلحة نوعية أفضل من جيوش كبيرة غير مدربة وبتعداد كبير للسلاح غير النوعي، كما أن ارتفاع تعداد القوات المسلحة في أي دولة، يزيد من عبء إدارته وتمويله.
من أهم مساوئ التجنيد الإجباري هو المعارضة ورفض المجندين لأداء الواجب أو رفضهم للمشاركة في الحروب، وبالتالي ظهور العقوبات على نطاق أوسع والتي قد تنتهي إلى غضب شعبي.
إضافة إلى ذلك فالقوات المسلحة السعودية هي أحد أفضل القوات في العالم، وذلك بالاعتماد على عدة معايير، أولها امتلاكها لأحدث الأسلحة النوعية في العالم في كافة فروعها، والتي يتم شراؤها من أفضل الدول المصنعة للسلاح، كما أنها تنافس أميركا في عدد المناورات والتدريبات لآخر سنتين، وهذا معيار مهم وأساسي لتقدم الأداء، ولديها أيضا انتشار في عدة دول، والأهم من ذلك أنها تخوض عدة اشتباكات جوية أو برية ولديها درع صاروخي نشط وفاعل، وهذه الاشتباكات الحقيقية تعد أفضل تدريب لأي قوات مسلحة في العالم، وهو ما قد يدفع أميركا دورياً إلى خوض الحروب والاشتباكات بهدف تمكين قواتها المسلحة، وقد يكون أيضا من أهم الدوافع لدخول روسيا في سورية بهدف اختبار أداء قواتها المسلحة إضافة إلى الدوافع السياسية الأخرى.
لذلك فالقوات السعودية يتطور أداؤها وتزداد فاعلية دون الحاجة إلى التجنيد الإجباري، كما أن الاتجاه إلى الصناعة العسكرية الذي أكده ولي ولي العهد وزير الدفاع ينعكس أيضا من الحاجة الراهنة لتقليص نفقات وزارة الدفاع، وهو تطور تلقائي يحدث بسبب النشاط المستمر.
التجنيد الإجباري قديم قدم التاريخ الإنساني، ولكنه كان تقليدياً وقائما على إجبار مجموعة من الأفراد وقت الحاجة ثم تجهيزهم عسكرياً، وعاد بشكل بارز مع ظهور الدولة الحديثة في الحرب العالمية الأولى، وقد تبنته معظم دول العالم وخاصة أوروبا على نطاق واسع مع الحرب العالمية الثانية، وكانت الحرب الطاحنة بين الأوروبيين والتي بلغوا فيها ذروة الجنون الإمبريالي، سبباً في الحاجة للكتل البشرية والتي ترتب عليها ملايين الضحايا ممن فقدوا حياتهم عبثاً.
أغلب دول العالم، وخاصة الدول ذات الجيوش القوية، تخلت عن التجنيد الإجباري، ومن ضمنها أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا وحتى الصين، كما أن هناك دولا تقدمت اقتصاديا مقارنة بالتعداد السكاني مثل تركيا وكازاخستان تعمل على خطة إيقافه في السنوات القادمة، أما أغلب الدول المطبقة للتجنيد الإجباري في الوقت الحالي فهي دول متراجعة تنموياً، وقد كانت المملكة المتحدة والتي تمثل أحد محاور القوى العسكرية الكبرى حينذاك، هي أول قوة أوروبية تعلن إيقاف التجنيد الإجباري في عام 1957 بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.
نرجو ألا تصل التحديات الجسيمة التي تواجهها المملكة العربية السعودية إلى أن تدفعنا للحاجة إلى التجنيد الإجباري، ويكفي أن شعبنا يملك من أصالة الموروثات التاريخية ما يؤكد أنه شعب تطبع في معظمه على التكاتف وقيم الشهامة والشرف والكرامة.