هل يمكن كتابة مقال بنفس عمق حنجرة لطفي بوشناق (خذوا المناصب والمكاسب، لكن خلوا لي الوطن)، فعندما تعجز الكلمات المجردة عن إيصال الإحساس العميق يتجلى الفن، لتعطي الكلمة المكتوبة أقصى معانيها عندما يحتضنها مقام الموسيقى الراقية بإحساس صادق لحنجرة متدفقة تليق بلطفي بوشناق، فتصل إلى أبعد مدى في الروح.

الوطن كمعنى سياسي لأي سعودي هو الوعي الكامل بإنجاز عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، هذا الوعي بمسيرة سياستاريخية، فيها كل ما في المسيرات البشرية الاستثنائية من عثرات ونجاحات وعبقرية، وصلت بنا إلى هذا الكيان الذي نسميه المملكة العربية السعودية، هذا المسمى الذي يوثق ارتباطه بالمعنى قبل الشكل عبر كلمة الملك فيصل عندما قال «المهم في الحكم ليس الاسم، وإنما التطبيق، فكم من نظام جمهوري فاسد، وكم من نظام ملكي صالح، والعكس بالعكس، فالنظام سواء أكان ملكياً أم جمهورياً يجب أن يبرز الخير والتوفيق والرقي وحسن الاستعداد في تجاوب كامل بين الراعي والرعية، أما إذا كان كلاهما غير صالح فإنه يولد المقت والاعتراض لدى أي شعب، فالأسماء ليست هي العبرة في الحكم ونوعيته، وإنما العبرة في التطبيق وشخصية الحاكم»، وبهذه الكلمات في أوائل الستينات الميلادية من القرن الماضي، نفكك في قرننا هذا عقدة ما سمي (الربيع العربي) الذي ما زال بكراً حتى هذه اللحظة ما دامت سورية واليمن مشتعلة، والعراق جرحا مفتوحا لكل الفيروسات والجراثيم حماه الله شر الغرغرينا، وحمى بقية أرض العرب من العدوى، أما لبنان فجمر تحت الرماد، والأردن تقف بملكها العريق ابن الحسين تحمل على أكتافها أوجاع اللاجئين العرب في كل الهلال الخصيب، من العراق إلى سورية وقبلهما فلسطين، فشكراً للمملكة الأردنية الهاشمية على أن كانت خيمة حاتمية لكل لاجئ، تسير لها العرب والعالم بالمرباع إكراماً لها عن ذبح الخيل.

الوطن إحساس قبل أن يكون معنى متداولاً على المستوى الفلسفي في الكتب، أو المستوى السياسي

على شكل دولة معترف بها في الأمم المتحدة، الوطن شعور فطري بالمكان يبدأ مع القرية، إذ نسميها في الطفولة وطن، ثم نرى المدارس والخدمات من ماء وكهرباء تصل إلينا في قرانا البعيدة، فنعرف أن هناك دولة تعطينا معنى أوسع للوطن، ثم نسافر إلى بلاد الدنيا، فنكتشف معنى أوسع للوطن، إذ نراه في اللغة كيمياء روحية تجعل العربي يرتمي في حضن أخيه العربي في أقصى مونتريال بكندا، يجمعهم غيتو روحي يستعيد اللحظة البكر لصراع داحس والغبراء في كل نقاش سياسي عن أوطانهم، كل هذا يحدث حيثما كانت الجالية العربية تستشهد بشعر أبي الطيب المتنبي تحت كل سماء وفوق كل أرض، يجمعها الشعر والغناء ويفرقها الساسة والفقهاء.

لنكتشف أن اللغة وطن، ونكتشف أن الدولة وطن، ونكتشف أن القرية وطن، بل نكتشف ما هو أعمق من كل هذا، فنرى على مواقع النت السينمائية (أقسام أفلام هندية وأفلام أجنبية)، فنرى في الشرق بكل أجناسه هندي أفغاني تركي وطناً لنا في كثير من طباعه، ونرى الغرب أجنبياً بكل لغاته، فنرى فيه غربة رغم اغترابنا فيه وبه.

وتبقى للواقع جدليته المادية في تهشيم كثير من دلالات الوطن المفتوحة للمعنى الرومانسي، فنسمع

(الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن) ليصبح الاكتفاء الاقتصادي وطناً جديداً، يضاف إلى دلالات الوطن، وتبقى الحدود الجغرافية للدولة فارغة من المعنى إن لم يكن بداخلها سوى العائل المستكبر، والجاهل المستثقف، أما التكنوقراطيون فبين سندان الأصالة العمياء ومطرقة المعاصرة البكماء، يعتصرون الإجابات المرتجلة (المجتمع غير مؤهل)، عوضاً عن المواقف الرجولية إجابةً على (ما سبب نقصان أهليته؟) لتنتهي إلى الأبد شواهد الرجعية التي ينتقدها العالم، ويستنكرها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، والمخلصون البسطاء ينتحلون دفوعات تزيد الخرق على الراقع، أما العقلاء فيدركون أنه (لا يطاع لقصير رأي)، ويتمنون من قلوبهم عندما يرون انفتاح العالم عبر شاشة جوال بيد طفل صغير، مع تزايد التعداد السكاني، ونسبة الشباب، إناثاً يسبقون الذكور، ألا يقال يوماً (ببقة صرم الأمر).