ضمن نشاطات حلقة الرياض الفلسفية قدم الدكتور ماجد السرحي ورقة مهمة عن البيانات الضخمة Big Data وعلاقتها بنظرية المعرفة، بعنوان «نظرية المعرفة في ضوء البيانات الضخمة». اشتملت ورقة السرحي على مقدمة مهمة في هذا المجال للتعريف بالبيانات الضخمة وآثارها على نظرتنا لنظرية المعرفة وكيفية التعامل معها. البيانات الضخمة باختصار هي تلك البيانات الهائلة كما والسريعة زمنا والمتنوعة طبيعة التي أصبحنا نحصل عليها من خلال أجهزة الرصد المتطورة. على سبيل المثال موقع أمازون amazon.com الشهير يحصل على كميات هائلة من البيانات عن زبائنه وعمليات البيع والشراء التي يجرونها. بناء على هذه البيانات يحاول الموقع الحصول على معلومات مفيدة من جهة التسويق والتخطيط للمستقبل. كل من تعامل مع هذا الموقع يعلم أن الموقع يتعلّم أشياء عن خياراته مع مرور الوقت ويقوم بتقديم اقتراحات بناء على تلك المعلومات. مثلا بين فترة وأخرى يرسل لي أمازون مقترحات لكتب فلسفية معينة. بل إنه في فترة معينة أثناء كتابتي لأطروحة الدكتوراه وتركيزي على موضوعات محددة أصبح يقدم لي مقترحات تتناسب مع خياراتي السابقة. هذا فقط مثال بسيط على البيانات الضخمة وإلا فإن استعمالاتها في عالم المال والأمن والطب والعلوم تكاد لا تحصى. السؤال الذي شغل بال الدكتور السرحي في هذه الورقة هو أثر هذه الثورة البيانية على طريقتنا في تحصيل المعرفة وتقييمها. الأطروحة الراديكالية التي ناقشها المحاضر كانت تلك التي تعلن موت النظرية والانفتاح المباشر على البيانات بدون تصفية مسبقة. الفكرة أننا مع البيانات الضخمة لا نحتاج إلى نظريات بقدر ما نحتاج إلى عملية تصنيف مفيدة للبيانات التي نحصل عليها لنتوصل إلى أنماط وسياقات محددة نبني عليها قراراتنا. هذه الأطروحة كأنها تؤذن بموت الفلسفة العقلانية وسيادة المجال للفلسفة التجريبية. يعترض المحاضر على هذه النظرة ويعرض أطروحة بديلة متداولة في الأدبيات الخاصة في المجال وهي أطروحة Data-Driven Sciences العلوم المقودة بالبيانات. هذه الأطروحة تعيد، بحسب المحاضر، الاعتبار للنظرية وبالتالي للفلسفة العقلانية في مقابل تمدد الفلسفة التجريبية. ختم الدكتور محاضرته بأمل أن تساعد البيانات الضخمة على اكتشاف نظرية كبيرة في المستقبل.

 كانت لي فرصة كتابة تعليق على هذه الورقة وأحب أن أشارككم هنا بملخص لذلك التعليق. في البداية أشارك الدكتور السرحي الاهتمام والعناية بهذه القضية وقد كان له الفضل في تعريفي بهذا المبحث قبل عدة أشهر. في السؤال الابيستمولوجي أعتقد أن البيانات الضخمة وآثارها تدخلنا في نقاش داخل المدرسة التجريبية أكثر من كونه بين المدرسة التجريبية والعقلانية. هذا باعتبار أن الاستقراء هو المنطق الجوهري للعمل مع البيانات الضخمة. في البيانات الضخمة لا ننطلق من بديهيات أو أفكار فطرية أو مبادئ عقلية كما يفعل العقليون بقدر ما ننطلق من مسح وإحصاء وجمع للبيانات. الذي يجري داخل المدرسة التجريبية مع البيانات الضخمة هو شكل من أشكال التنافس بين منطقين داخل المنطق الاستقرائي: الأول هو الاستقراء الكلاسيكي induction وبين الاستقراء التفسيري Abduction راجع (Rob Kitchin, Big Data New Epistemologies and Paradigm Shifts, 2014).

الفرق بين المنطقين ليس واضحا، لكن من أهم الفروقات أن المنطق التفسيري الثاني مشغول بالوصول لتفسير لسلوكيات معينة. مثلا حين ألاحظ أن صديقي قد خرج من المكان مسرعا لإجراء اتصال في الخارج ثم استنتج أن الاتصال يحمل معلومات مهمة عن أم صديقي المريضة. فإنني قد استخدمت المعلومات التي أعرفها عن هذا الشخص لتفسير سلوكه رغم أنه في الواقع قد يكون خروجه من المكان لسبب آخر. الفرق بين المنطقين هنا أن المنطق التفسيري مشغول بالتفسير ومرتبط بقرارات في عين الاعتبار، بينما المنطق الاستقرائي لديه وفاء أكبر للمعلومات ويتحرك في حدودها في محاولة لرصد الواقع قبل محاولة تفسيره.

 الاستنتاجات المفضلة في abductive reasoning هي الاستنتاجات البسيطة التي تتفق مع ما هو معروف. هذا ربما يدفع بالتفكير وفق هذا المنطق لتفسير الواقع بما يتوافق عن الواقع والابتعاد عن التفسيرات التي تحمل ما هو غريب وجديد ومختلف. إذا طبقنا هذا الطرح على عمل أمازون نلاحظ أن العمل البياناتي الضخم الذي يجري فيها لا يهدف لتقديم نظريات جديدة ومختلفة بقدر ما يقدم معلومات دقيقة عن أنماط سلوك الناس خصوصا سلوكهم الاستهلاكي. إذا كان هذا دقيقا بالنسبة للمنطق الذي يقود العمل ضمن البيانات الضخمة فإن الأمل الذي ختم به الدكتور في اكتشاف نظرية جديدة من خلال البيانات الضخمة يبدو أقل احتمالا. النظريات الجديدة غالبا تأتي بما هو جديد ومختلف ومفاجئ. لكن الدكتور المحاضر أشار في تعليقه على تعليقي إلى أن هناك استخدامات طبية وفلكية للبيانات الضخمة قد لا تتحرك في اتجاه البحث عن تفسيرات تتوافق مع ما هو معروف بقدر ما تتعامل مع البيانات الضخمة بالمنطق الاستقرائي الساعي للتوصيف الدقيق للواقع، بغض النظر عن توافقه مع ما هو معروف. أعتقد أن المحاضر على حق، لذا أقدم هنا دعوة للمهتمات والمهتمين بهذه القضايا لأن يشاركونا بمعلومات وأطروحات قد تساعد على الدفع بالحوار في اتجاهات أرحب.