لو سألتني قبل خمس سنوات عن مدى واقعية حصولي على وظيفة مرموقة بدوام جزئي في بريطانيا، لكانت إجابتي ببساطة «مستحيل»! ذلك أنني كنت أعتقد بأن كوني مسلمة، محجبة، سعودية، لست من عائلة دبلوماسية كل ذلك وغيره سيمنعني من تأمين هكذا فرصة. يا للأسف، كنت أنظر للبريطانيين بعين طباعنا في الشرق، لم أكن أعرف أن معيارهم الوحيد لقبول أي متقدم هو الجودة، الجودة ولا شيء آخر. اليوم، أنهيت تجربتي بالعمل في قسم الإنتاج الإعلامي بجامعة بريطانية، وكان شركائي في العمل رجل إسباني، وامرأة إفريقية، ومسن بريطاني وآخر هندي يُعرف بتوربانه السيخي. كان هذا التنوع الثقافي والديني والفكري الذي يبدو واضحا في أشكالنا أمر رائع وملهم. ولم يكن اختلافنا يقلل من احترامنا لبعضنا، أو يغير شيئاً في الطريقة التي ننظر فيها لبعضنا. والأمر الذي لم أكن أعرفه هو أنه في بريطانيا تخضع جميع الشركات والمؤسسات لاختبارات العدالة والجودة، وفيها يتم احتساب عدد الموظفين ثم توزيعهم بناء على أديان، وأعراق، وميول، وجنس، وأوضاع صحية، واجتماعية وإذا لوحظ سيطرة أي من هذه التصنيفات على مكان العمل تُحسم من صاحب العمل نقاط امتيازية وفرص تحسينية.
لم أكن أعرف قبل تجربة العمل مع البريطانيين أن هذه المعايير التي تضمن عدالة كل شخص تُطّبق في أي مكان بهذا العالم، لأنها فعلاً قادرة على جعل بيئة العمل شيئا يشبه اليوتوبيا، حيث يتساوى كل الناس مع بعضهم بل ويتعايشون بشكل خالٍ تماماً من الشوائب أو العيوب.
أثناء مقابلتي الشخصية للوظيفة مع بروفيسور بريطاني في الإعلام، سألني: هل تعرفين أن هناك ثمانية بريطانيين تقدموا على هذه الوظيفة معك؟ أجبته: التقيت بهم في مقاعد الانتظار. ثم قبلوني وكان قبولي بمثابة لحظة إفاقة بالنسبة لي، فهذا البروفيسور تجاوز كل الاختلافات ولم يختر رجالاً مثله ومن بلده، بل وأحدهم كان حفيد صديقه، ولكنه نظر لما يمكن أن أقدمه لجهته فقبل بتوظيفي وأنا الأجنبية ولست ابنة البلد، أضف إلى ذلك أنني امرأة ومسلمة. إن هذا المستوى من الرقي الذي يجعلنا ننسى كل اختلاف بيننا وبين الآخر وننظر للفائدة العامة التي يمكن أن نكتسبها من بعض هو ما نحتاج إليه في هذا الشرق، الذي يغالي في أحاديته وربما انغلاقه. الأمر الذي أدهشني أيضاً هو منحهم إياي عضوية لجان من أجل تقييم بعض المشكلات، وكنت أتأمل مدى جديتهم في تلقي انتقاداتي التي أقولها بل وموافاتي بالحلول التي تؤخذ في الحسبان، وهذا أمر آخر يشاد به في تعاملات البريطانيين مع الأجنبي. إنهم يتعايشون ويتعاطون مع الآخر يستمعون، يتشاركون، يجعلونك تشعر كأنك فرد منهم دون أي انتقاص أو ابتذال. لقد تجاوز البريطانيون حكايا الأصل والفصل والعرق والتوجّه وجعلوا دولتهم ومدى تقدمها هي أولويتهم، فكان هذا الانسجام المذهل وهذا الانفتاح على الثقافات الأخرى هو النتيجة، فلسان حالهم هو كما قال أمين معلوف: كلما شعر المهاجر بأن ثقافته الأصلية محترمة كلما انفتح أكثر على ثقافة البلد المضيف.