يُروى أن مسؤولا أسبق في جهازنا التعليمي اقترح عليه بعض مرؤوسيه أن تتوقف الوزارة عن توزيع الكتب مجانا، وأن يُعوَّض الطلاب عن ذلك بثمنها نقدا بداية كل عام، بحيث يكفل ذلك القضاء على صعوبة الضبط الإداري لتوزيع الكتب والهدر الناتج عنه.

استمع المسؤول إلى الاقتراح، ولكن إجابته كانت كالتالي: «كيف نضمن أن الطالب يشتري كتبا؟ يمكن أن يستعمل كتب أخيه القديمة ويحط الدراهم في مخباه؟»!

لا أعرف مدى صحّة هذه القصة، ولكنها ترمز عندي إلى طريقة العقلية الحاسدة في إدارة الموارد. تلك العقلية التي يفوتها أن من يرشّد النفقة ويطيل عمر استهلاك المنتج يستحق «مخباه» ثمن تلك الكتب، ما دام أن الجميع رابح في النهاية.

استرجعت ذاكرتي هذه القصة، عندما قرأت خبر إعفاء مدير إحدى المدارس من عمله، بسبب احتشاد أطفال من مدرسته، وقيامهم بتمزيق الكتب في مظهر احتفالي صاخب. كأول ما يستقبلون به إجازتهم الصيفية الطويلة.

سأستعير تعليق صديقي الدكتور «عبدالله الخطيب» الذي قال عندما شاهد ذلك المقطع: «كيف عجز الكتاب المدرسي عن إنقاذ نفسه من هذا العبث؟»

نعم، كيف عجز عن هذا؟ نحن نعرف أن الإنسان عند ابتعاده عن مصادر الرقابة القانونية لا شيء يدفعه إلى احترام الأشياء من حوله سوى أمرين: إما تقديرا لثمنها المادي، أو إيمانا بقيمتها المتجاوزة لوجودها الحسي.

يصعب تصور أن يمزق الطفل من هؤلاء حقيبته مثلا، كما يبعُد أن يحرق شعار ناد رياضي محبب إليه. فالحقيبة محمية بما دفعه والده من ثمن، وشعار النادي محمي بالقيمة العاطفية المحيطة به. ولكن بين هذا وذاك، كيف لم يكتسب الكتاب المدرسي ما يحميه من الأذى؟

من الممكن أن يُستعمَل الثمن كأداة حماية بواسطة الفكرة التي تم اقتراحها في أول المقال، أو بأي فكرة مشابهة توازن بين مجانية التعليم الذي يعد من ثوابت الحركة التعليمية لدينا، واحترام الكتاب المدرسي كمقصد أخلاقي رفيع.

ولكن ينبغي أن يكون الرهان الحقيقي على صبغ العلاقة بين الطالب وكتابه بقيمة وجدانية تحمي كليهما. فدارسٌ لم يحمه كتابه لا يقلّ وجوده شؤما عن كتاب لم يحمه دارسه، ولكن لن يحدث هذا قبل أن نفهم سبب امتناع نشوء هذه القيمة تلقائيا حتى الآن!

يمثل شعار النادي الرياضي معاني مهمة بالنسبة للطفل، فهو يرمز إلى «الشغف» الذي يشعر به تجاه من يقدم إليه لحظات المتعة، ويرمز كذلك إلى «الانتماء» الذي يربطه بالآلاف الذين يشترك معهم في طريقة التفكير ذاتها. جمالية هذه العلاقة تكمن في أنها متحررة من السُّلطة إلى حد بعيد، في حين أنها تعتمد بالدرجة الأولى على مفهوم القدوة في نشوئها.

يخطئ الكبار عندما يظنون علاقة غالبية الأطفال بفرقهم الرياضية هامشية لديهم، مقارنة بعلاقتهم بمقرراتهم الدراسية. علينا أن نعترف بخطأ هذا التصور، فالهامشي حقيقة هو ما يحتاج إلى التبرير، بينما لا يبرر أولئك الأطفال احترامهم لرموز أنديتهم. علينا ألا نكتفي باستهجان هذا السلوك الطفولي دون أن نسعى إلى فهمه.

ما زالت المدرسة مكانا بغيضا بالنسبة إلى غالبية طلابنا، وهو ما يمكننا التأكد منه عبر استبيان موضوعي شامل، ولكن لماذا؟

لعل المفتاح أيضا في مفهوم «الشغف» ومفهوم «الانتماء»، إذ إنهما ما تفتقده علاقة الطالب بمدرسته على الأغلب. ولعل ذلك لكونها علاقة تقوم بالدرجة الأولى على السلطة، وتوشك أن تخلو من الاعتماد على القدوة.

الطفل البشري كائن مشدود إلى حرية الاختيار بالفطرة، وهي فطرة لا يهددها مفهوم الاقتداء بقدر ما يهددها مفهوم التسلّط، لذلك فإن موقفا رشيدا واحدا يُمارَس أمام الطفل دون تعليق كفيلٌ بأن يغني عن عشرات الأوامر والمواعظ.

وهذا ما يقودنا إلى أن نتجاوز السؤال عما ترمز إليه المدرسة والكتاب عند أطفالنا، إلى أن نتساءل عما يرمزان إليه عندنا كآباء وأمهات؟

هل ما زلنا ننظر إليهما كأمر واقع يفرضه علينا احتياج من نعولهم إلى ما يعولون به أنفسهم مستقبلاً؟ أم أنهما مما ينبغي التظاهر باحترامه فحسب، دون إدراك لما يعنيه بالفعل؟

أم نحن صادقون في الاعتداد بقيم المعرفة وأخلاقياتها؟

مهما كان جوابنا، فالأرجح أنه هو ما يحمل في طياته تفسير سلوك أطفالنا. فالأطفال يعرفون ما ينبغي عليهم فعله تجاه الأشياء، بواسطة ما يرونه من سلوكنا نحوها، وليس ما نقوله عنها.