ـ 1 ـ

في السنوات الأخيرة تعرض تركي السديري لظرف صحي قاس، أثر على كل شيء فيه ما عدا نبله في تعامله وفي علاقاته العامة والخاصة، وهو نبل سأشير إليه لاحقا، ولكني أشير ابتداء إلى التغيرات التي حدثت لتركي مع ظرفه الصحي، وكل المقربين منه كانوا يعرفون أنه يمر بحال تؤثر على طريقة كتابته لمقالاته، وظهر عموده الصحفي بصيغة غير المعهودة من مستواه الكتابي والإبداعي والفكري الذي امتد لنصف قرن من الإبداع المتصل، ولن يغيب عن نباهة أي باحث أو ناقد أن يلحظ تغيرات المستوى، ومن له بصيرة نقدية بالكتابة بعامة لن يستنكر ذلك بقدر ما يتفهمه، وهي حال تجري للبشر في كل شأن حياتهم وكما تضعف قوى الجسد تضعف قوى الذهن، مثل أي فارس يقعده مرضه عن صهوة حصانه، أو لنقل مثل دريد بن الصمة، وهو صاحب الشأن والفروسية المشهود لها وانتهى به الأمر لضعف في جسده جعل قومه يستعصون عليه، لدرجة أن يأمرهم بمنعرج اللوى، وينصح لهم لكنهم سخروا منه ووصفوه بالتخريف، حتى وقعت عليهم الهزيمة وقال فيهم قصيدته المشهورة، وكأننا كنا على مشهد مماثل مع فارس القلم الذي تحولت الكتابة مع مرضه لتكون أداة علاجية ذاتية، وكل المقربين من تركي كانوا يعرفون أن مواصلته للكتابة هي عنوان لمواجهة المرض والتصبر عليه، ولتركي عموما تاريخ طويل مع الأمراض، صبر عليها وتعامل معها وتحملها، وكان يكتب ويدير الجريدة ويسافر ويشارك بحيوية متصلة، ولكن من صحبه في سفر يعرف من خلال طريقته ونظامه مع الطعام واختيار أماكن الأكل ونوعيات الأكل مما لا يتعارض مع حال جسده ومعاناته، ومع هذا فلم يجعل مرضه موضع عقدة مع أصحابه ولا مع تحركاته، ويظل أنشط المجموعة وأكثرهم حيوية، على الرغم من كل ما في داخله من ألم وفي نفسه من تصبر، ولقد كانت الكتابة هي رفيقة الدرب التي لم تترك فارسها رغم جراحه.

 ـ 2 ـ

 كنت أعرف تركي السديري لسنوات قبل ذلك اليوم، وهو يوم اختلف عما قبله، وهي مناسبة مصغرة في بيت الأستاذ محمد حسين زيدان بجدة، حيث دعاني مع عبدالفتاح أبو مدين إلى الغداء على شرف تركي السديري، وفي المعهود عندنا أن حفلات الزيدان كانت دوما خارج منزله، ولكنه هذه المرة يكسر البروتوكول، وعلى الغداء لم يكن سوانا نحن الأربعة، وانطلق الزيدان وتركي في أحاديث وقصص عن الصحافة والمجتمع ورؤوس القوم وعامتهم، وكنت مع أبي مدين نلعب دور المستمع، لطبع معرف عند أبي وديع، ولخلو ذاكرتي من أي خلفية عن تلك الحكايات، ولذا وجدتها فرصة لمعرفة ما وراء كواليس الأسماء والمشاهير، وأنا القابع حينها خلف أسوار الجامعة، وكان كتابي (الخطيئة والتكفير) للتو قد صدر (1985)، وبعد وقت من العروض الذاكراتية، غير الزيدان الحديث وقال لتركي: لم لا تستكتب عبدالله في الجريدة ليوضح لنا كيف قام بتشريح حمزة شحاتة، فرد تركي مازحا: إن كان لدى عبدالله القدرة على شرح البنيوية لنا الآن في خمس دقائق، وهنا وقع الحرج غير المتوقع أبدا، وكيف لي أن أشرح نظرية معقدة وفي دقائق، ولم أجد بدا من تجريب نفسي مع هذا الحرج، واستعنت بمعرفتي عن خلفية تركي السديري الرياضية واتخذت لعبة كرة القدم بوصفها نصا، وأسقطت مصطلحات البنيوية على اللعبة كما لو كانت نصا، وعرضت نظام البنية ومكوناتها حسب تركيب نظام اللعبة، وهنا أحسست أني قدمت فكرتي بطريقة لا تثقل الجلسة بالتعنت المصطلحي، وهذا ما جعل تركي يصر على وعد مني بمقال أسبوعي في جريدة الرياض عن مواضيع النظرية النقدية، وقد فعلت، وسلسلة هذه المقالات موجودة الآن في كتاب أصدرته جريدة الرياض بعنوان (مقالات الغذامي). وهنا أسجل امتناني لأبي عبدالله، إذ جرني لطرح النظريات في خطاب صحفي يقربها للقارئ غير المختص، ويخرجها من بطن المتون ومن جوف قلعة الأكاديميا.

 ـ 3 ـ

 في عام 1987 نشرت رجاء عالم مقالة في جريدة الرياض تحكي عن مشهد إيماني لابن أخيها وهو يقلد صلاة والده ويلثغ بالتكبير والتشهد، بعبارات طفولية مع سجود وركوع مثير للعجب، وروت رجاء طريقة التلفظ، ووصفت صيغة السجود، وما إن نشر المقال حتى ضجت الخطب والأشرطة في حملة مسعورة ضد الحداثية التي تسخر من الصلاة والتكبير والتسبيح، وبعده بيومين نشر لقاء مع رجاء وهي ترد على صحفي نقل لها سخرية بعض شلل الصحف ضد كتابات رجاء وتنطعهم بالقول عنها فقالت للصحفي: هذه نقولات تسير بينهم يرويها محبط عن محبط عن محبط، وتم استغلال هذا أيضا للزعم أن رجاء تسخر من الحديث الشريف مثلما تسخر من الصلاة. لقد كان التجني واضحا وصادما لكل أحد منا، وصعب علينا اتخاذ أي موقف دفاعي عن رجاء، لأن كل واحد منا أصلا متهم عند أصحاب التشنيع في ديننا وفي علمنا وفي قولنا، وكأنما صرنا نرى الظلم والتجني عيانا ولا يد لنا في رفعه.

وفجأة وفي صبحية يوم كنت أسير فيه لمكتبي في الجامعة نظرت في جريدة الرياض ورأيت مقالة قوية وعميقة وشجاعة بقلم تركي السديري يدافع عن رجاء. وكم كانت دهشتي حيث واجه الظلمة برد موضوعي وعلمي وفي وقفة نادرة ومذهلة من رئيس تحرير جريدة، يندر أن يعرض نفسه لألسنة فئة لا تتورع عن التلفظ بأي جارح من القول، وذهبت في ردهات الكلية أبحث في مكاتب العميد والوكيل عن هاتف فيه الصفر لكي اتصل بالرياض، وكنت حينها في جدة، وحين كلمت تركي مندفعا بكلمات الشكر له، أوقفني وقال: يا عبدالله، رجاء كاتبة عندي، وأول حقوقها هو أن نحمي كرامتها الإنسانية والثقافية، وهذه قصة لم أروها من قبل، حتى رجاء عالم لا تعلم عن هذه المكالمة.

 ـ 4 ـ

 وبعد سنوات من هذه القصة كنت في جامعة أم القرى وتعرضت لهجمة هوجاء من عدد من الناس في قاعة المحاضرات، وهذا دفع بالدكتور محمد عبده يماني أن يكتب كلمة يستنكر فيه ما حدث، ونشر كلمته في ثلاث صحف في توقيت واحد، وهذا دفعني لكتابة مقالة بعنوان (وإنصاف ذوي القربي) وأهديتها لمحمد عبده يماني، وفي سبيل نشر مقالي وقعت في حرج مع تركي السديري، فلا أريد نشر مقالي في غير جريدتي التي أكتب فيها (الرياض) والحرج أني أعرف المشكلة التي صارت لتركي مع الدكتور اليماني حين كان وزيرا للإعلام، وكلاهما فاضل عندي وله مقام في القلب والعقل، ولست أريد أن أمتحن صبر تركي ولا أن أضعه في حرج مع مقالي، وهنا هاتفت سعد الحميدين وسألته ما الحل، ورد علي سعد بعد مهلة وهو يقول: يسلم عليك أبو عبدالله ويطلب منك إرسال المقال واختيار اليوم والصفحة التي تريد، ونشر المقال مع صورة كبيرة للدكتور اليماني ومع الإهداء له على رأس المقال.

 ـ 5 ـ

 ما رويته هي أمثلة تشرح غيرها مما هو مثلها وأكثر، حيث شهدنا على تركي وفاءه ونبله مع الكل، وأشهد أن علاقته مع الدكتور اليماني وعلاقة الأخير معه تحولت لتكون في قائمة المحبة والتسامح، وهذه سيرة أبي عبدالله، وشهدت بنفسي وقفات له مع كتاب وصحفيين صارت لهم ظروف خرجوا من صحفهم، وصاروا خارج مكان الصوت والمقام، وبادر تركي باستضافتهم على ورقات جريدته كتابا مكرمين ومقدرين، وبعضهم كانوا خصوما له ينافسونه ويضايقونه ويحاصرون نجاحاته، يوم كان لهم منافسات معه، ولكن نسي كل ما مضى ووفى حين حان موعد النبل.

ومثلهم كتاب وكاتبات عرب صارت لهم ظروف خرجوا بها من بلدانهم إلى الضياع والملاجئ، ونقلت لأبي عبدالله عن بعض منهم وشرحت له ظروفهم ففتح لهم مجالا للتنفس والكتابة واستضاف أقلامهم، وهي أقلام تستحق ولم يكن الأمر مجرد عاطفة، ولكنه تكريم لعزيز قوم ذل، وجاء التقدير من رجل كريم ونبيل.

وأضيف إليها مواقف وظف فيه تركي السديري وجاهته ومقامه في الدوائر العليا لحل معضلات وقع فيها بعض الكتاب، من أوضحها الحاجة للعلاج، ولآخرين مرت بهم ورطات حرجة، وشهدت مرارا كيف جاءت الحلول سريعة بسبب تدخل نبيل من رجل جعل وجاهته لخدمة غيره حين الضرورة، وأكرر القول هنا أن بعض من أعرف كانوا خصوما لتركي ولم يجعل الخصومة سببا للتخلي وقت نداء الضمير.

هذه بعض صور عن رجل نبيل عاش في الصحافة عقودا، وعاش في النبل أضعافا أضعافا، هو الذي أقول عنه إنه: فعلٌ مبنيٌ للمعلوم. تغمدك الله بجناته ورضوانه وضيفك رحمته ورضاه أيها الرجل النبيل.