حكت لي إحدى المسؤولات في جامعة سعودية، أنه تم ضبط مجموعة من الطالبات، وقد قمن بعملية غش جماعي في الواجبات الجامعية، وعندما أُحضرن للتحقيق في الحادثة، فمنهن من أبدت خجلها وندمها وطالبت بأن تعاقب بأية صورة تراها الإدارة مناسبة، وهو ما يحسب لهن، فالاعتراف بالحق فضيلة، ومنهن من غضبت لمجرد فكرة التحقيق معها، فهي لم تنكر الغش، لأنه لا مجال للإنكار فالأدلة ثابته، لكنها ظلت تجادل بتبرير عجيب وهو: «كل الناس تغش جات علينا؟!»، وعلى الرغم من أن هذا التعبير مستفزٌ، فليس مستغربا في مجتمعاتنا العربية للأسف.
فهذا المشهد نراه يتكرر في الغش التجاري، وفي الفساد المالي والإداري، فتردد هذه الجمل «كلهم سرقوا أموال الدولة/المؤسسة، أو استخدموا ممتلكاتها لغير العمل «كالسيارات ونحوها» ليش نحن فقط نتحاسب؟!»، أو «كلهم وظفوا أولادهم وأقاربهم جات علينا!».
وحتى في السياسية، إذ أتذكر جيدا أيام الغزو العراقي الغاشم لدولة الكويت الشقيقة، كان بعض العرب يبرر عدم الرغبة في تحرير الكويت بالقول: «ولكن فلسطين محتلة. لماذا لا تحتشدون لتحريرها؟». واليوم كذلك حين نتحدث عن جرائم النظام السوري يأتينا الجواب: «وماذا عن جرائم إسرائيل؟ وماذا عن بقية الأنظمة الديكتاتورية الدموية؟!».
فمن الواضح أنه تسيطر على الذهنية العربية فكرة أن الحساب يجب أن يكون جماعيا وشاملا وعاما، حتى يكون عادلا. فإما أن تعاقب كل المغتصبين والمتحرشين والقتلة والفساد والسُراق أو لا تحاسب أحدا!، ويكاد يستحيل أن يقع كل المذنبين في قبضة العدالة، سواء في الدول المتقدمة أو النامية، إما لعدم كفاية الأدلة، أو لعدم معرفة الجاني بالأساس، أو للنفوذ والفساد، أو ببساطة لأنها العدالة الربانية بأن يُعجل الحساب للبعض في الدنيا، فيما سيُضاعف العقاب لغيرهم في الآخرة. ولذلك، فوفق هذا المنطق يجب أن يُترك الجميع بلا حساب، ويا له من مجتمع مرعب ذلك الذي يعرف المجرم فيه سلفا بأنه لن يطاله العقاب.
إن مجرد شريحة أو بضع شرائح في المجتمع تعتقد بأنها فوق القانون، أو أنها قادرة على التحايل عليه، كفيلٌ بأن يتسبب في وقوع كثير من الجرائم والمشكلات، وهو ما نشاهده في تعدي بعض كبار التجار والأعيان وغيرهم على الأراضي والممتلكات العامة مثلا، أو ما نراه في المحاكم من تعدي بعض الرجال على زوجاتهم وأطفالهم، أو تعدي بعض النساء على الخادمات والمستضعفين من الأطفال. فما بالنا لو انتشر هذا الفكر لدى شرائح أوسع حتى ليكاد يشمل المجتمع كله؟
تبدأ المشكلة على ما يبدو من البيت، حين يغضب الأبوان من توبيخ أو معاقبة ابنهم لذنب ارتكبه في المدرسة أو الشارع أو لدى الأهل والجيران، فبدلا من الحرص على تعليم الصغير السلوك القويم، ليستشعر حجم الخطأ، ويتعلم منه كيف يكون إنسانا خلوقا، ومسلما صالحا، ومواطنا محترما، يتم الدفاع عنه -أمامه- باستخدام الحجة نفسها «فيما لن تنجح المحاولة الأولية لإنكار علاقة الملاك الطاهر بالجرم المنسوب!»، فينشأ معتقدا أن ما قام به أمرٌ طبيعي، أو على الأقل غير مستهجن، ما دام ليس الوحيد الذي يمارسه، فكلهم يفعل ذلك. فكل الجرائم تبدو صغيرة، وكل الذنوب تظهر بسيطة عندما تمارسها الجماعات لا الأفراد.
روت لي بغضب إحدى النساء عن تعرض ابن أختها الصغير «4 سنوات» لتحرش جنسي واضح في إحدى مدن الألعاب ممن يكبره سنا، في حدود الحادية عشرة تقريبا، فقد شاهدته الأم نفسها، كما فضحته كاميرات المراقبة، وحين أحضروا ولي أمره -والده- لم يبدُ عليه التأثر إطلاقا، فبرأيه هذا أمر يمارسه غالبية الأولاد في سنه، «ستعاقبونهم جميعا؟ فماذا تريدونني أن أفعل؟ لا تكبّروها!» فإذا وصلنا إلى مرحلة اعتبار التحرش الجنسي بالأطفال أمرا طبيعيا من بعض الأهالي أنفسهم، فلا شك أن المشهد ليس جيدا على الإطلاق.
يحتاج الفرد العربي والمسلم اليوم إلى أن يعود لمصادر التشريع في دينه، والتي تعلمه بأن المرء محاسب على أفعاله وأقواله ونيته وأفكاره، ما دام قد بلغ سن التكليف، وبأن ضلال الأمة وفساد الولاة والحكام والتجار والمجتمع بأسره، كلها ليست مبررا لانحراف وضلال الفرد، ولن تشفع له هذه الحجة يوم الدين، حين يقف بين يدي ربه، فكل نفس بما كسبت رهينة، ولا يضرك من ضل إذا اهتديت، وكل مسلم سيأتي ربه يوم القيامة فردا. وبالتالي، فإن من الطبيعي أن يتحمل الأفراد عواقب أفعالهم، بغض النظر عن الآخرين، وما سيحصل لهم ومعهم، وما سيجري عليهم.
صحيح أن الحرص في معاقبة الكبار قبل الصغار، والأغنياء قبل الفقراء، وأصحاب النفوذ قبل البسطاء، يسهم بشكل كبير وفعّال في تعزيز قيم العدالة في المجتمع، ويقول لمن تسول نفسه ارتكاب الخطيئة بأنه لن ينجو من العقاب الذي لم ينجُ منه ابن فلان، وهو من هو مكانةً أو حسبًا أو نسبًا أو مالا. وبالقدوة الحسنة كشخص في موقع المسؤولية تقنع الآخرين بانتهاج السلوك القويم أكثر بكثير من عشرات الخطب الرنانة والمحاضرات المكررة، لكن في الوقت ذاته فإنه في حال لم يتم الاقتصاص من هؤلاء، أو حتى من كل الناس العاديين -غير الشخص المعني في حادثة بعينها- فهذا لا يعني أنه يجب ترك الحبل على الغارب، وترك المجرمين يعيثون في الأرض فسادا، فعندها سيغيب الأمن والأمان، وسيتحول المجتمع إلى غابة لا يأمن المرء فيها على نفسه أو أهله أو ماله، والبداية من المدرسة، ففيها تبدأ صناعة المواطن الصالح أو الفرد الطالح.