لن أعرض لموضوع إثبات دخول رمضان أو شوال بالحساب الفلكي وضرورة تقديمه على الرؤية البصرية البدائية منطلقا من العلل ــ جمع علة ــ أو المقاصد، ولا من إثبات صحة الحساب وقطعيته وإن اختلف به الهواة الذين لا يحسنونه، ولا من ظنية ثبوت النص وظنية دلالته حول الرؤية هل هي البصرية أم الإدراكية، ولا ظنية شهادة الشاهد واحتمالية خطئه، فكلها ظنون بعضها على بعض وقد تم تناولها كثيرا.
ولكني سأنطلق مما هو أسمى من ذلك وهو تعظيم الله، فحينما نقول إنه لابد من أن يخرج شخص ليقف على جبل رملي ليشاهد الهلال بأم عينه أو بمكبر ثم يعود ليخبرنا، ثم ندعي أن هذا هو حكم الشريعة فهذا يعني أن الله يطلب منا أن نتصرف بهذه الطريقة السطحية وأنها مرادة له، والفقيه الحقيقي هو الذي يكون مستحضرا لعظمة الله قبل أن يكون مستحضرا لعظمة الرواة أو عظمة السند أو عظمة اللغة ودلالاتها أو غيرها من الأدوات البشرية، فلا يمكن أن يكون مراد الله بهذا الإسفاف لأنها إساءة إليه، حتى ولو كان على سبيل التوقع أو الظن، أي أن يقول صاحب هذه الدعوى أظن أن الله يريد هذا من البشر، بخلاف من يعتمد طرقا حديثة فإنه وإن أخطأ إلا أنه حاول أن يعظم الله وفق ما هو متاح له أداتيا أو عقليا، ولذا فحتى لو ظهرت أدوات في المستقبل البعيد ووسائل تحقق المقصود من تيقن دخول الشهر، فإنه يعتبر إسفافا بحق الله أن يعتمد أهل ذلك الزمن الحساب الفلكي المعروف اليوم، نظرا لوجود وسيلة أنجع يقدمونها لله، وهكذا في كل الأزمنة وفي كل الأحكام.
فلا أريد من هذا المقال أن أثبت أن الوسيلة تتغير بحسب إفضائها إلى المقصود بالطريقة المادية فحسب، وإنما تعظيمك لله وتعظيمك لأحكامه يتطور بتطورك أيها الإنسان، ولا يقال إن هذه نسبية يختلف الناس في تقديرها لأن تلك الأدوات البشرية نسبية أيضا وعائمة أكثر منها.
للأسف إن ملاحظة تعظيم الله في نسبة الأحكام لديه لم تكن مطروحة قديما كوسيلة تساعد على إدراك حكمه، وأقرب مسألة تشابهها هي هل الحق متعدد أم واحد؟ ولكن هذا في ذاته وليست طريقة في تمحيص الاجتهادات، وإغفال هذا الأصل هو ما تسبب في كل تلك الأحكام الجزئية الهائلة المنسوبة لله، فهذه الطريقة ليست خاصة برؤية الأهلة، وإنما في كل حكم فقهي يصل إليه المجتهد، ولذا حينما نعتمد على القيمة الإنسانية كمؤثر بل كثقل في الحكم، فلأنه أعظم ما لدينا من رؤية نحاول أن نصل إلى مراد الله من خلالها، وكذلك الأحكام العقلية كالخلو من التناقض فهي أعظم من علم المنطق ومن الكثرة البشرية وغيرها، خاصة إذا علمنا أن كل عباداتنا وفقهنا ما هي إلا محاولات للوصول إلى الله، فلا يتصور شخص أنه وصل إلى المراد الحقيقي الناجز وهذا موضوع يطول، لكن لا يوجد أدل على ذلك من قول النبي عليه الصلاة والسلام، حينما سأل جارية أين الله؟ فقالت: في السماء، فقال «اعتقها فإنها مؤمنة»، فالنبي حكم بإيمانها، وصحة جوابها ليس لكونها استطاعت أن تحدد مكان الله، فليس هذا مطلوبا من المؤمن وليس مؤاخذا بالجهل به، ولم يكن النبي يسأل عن المكان بالمعنى المعروف، وإنما الإشادة في أنها استطاعت أن تجيب بأعظم وصف تراه ببساطتها وهو السماء فإنها لا ترى أعظم منه، وكذلك حال الفقيه والفرد، فليس مطلوبا منه إلا أن يحاول أن يضع الحكم الشرعي في أعظم تصور له عن الإله، فهذا أضمن وأسهل بحيث يمكن للفرد البسيط ممارستها.