ما قصة توجيه الناس فيما يرون أنه ينفعهم وحصره في إطار الديني فقط، وتقديمه عبر قوالب صحوية جاهزة تظهر في قوالب خطابية سخيفة إلى درجة السذاجة في معظمها.
في كل يوم أشاهد عبر وسائل التواصل المختلفة عددا لابأس به من أفلام ومقاطع «الميديا الفيديوية» التي يظهر فيها بعض الشباب أو من يتقمص دور الداعية بنموذج كرسته الصحوة في صورة الرجل الصالح الفالح السوي الذي يتمتع بكل صفات الورع، ليوجه الناس بسخافة متناهية تنبئ عن جرأة وقلة علم بالدعوة وأساليبها المهذبة التي تحترم المتلقي ولا تتعامل معه بانتهازية. الأساليب المستندة إلى قول الله تعالى «أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن».
إذ على طريقة الرياضيات 1+1=2، يقدم هؤلاء ما لديهم، على هيئة دليل برمجة لآلة كهربائية أو شيء من هذا القبيل!
تريد كذا افعل كذا، تريد هذا افعل هذا.!!
إن حصر هؤلا لنتائج الأشياء على ما يقولون أو يأتون به فقط يتناقض تماما مع القول بإرادة الله تعالى وقدرته ومشيئته، وقولبتها في مقاسات خاصة بنماذج يظنون من خلالها أنهم الأقرب فيها إلى الله تعالى. في الواقع لا يوحي ذلك سوى بإعلان صريح لتغييب قيمة التدبر، وفي الوقت ذاته تأكيد على محدودية قدرتهم على التواصل مع اتساع ورحابة النصوص الإلهية، لأنهم يرون أن لهم الأحقية في الحديث بالقطعيات نيابة عن الله تعالى، مفصلين إرادته ونتائجها كما يظنون هم.! وهو ما يتناقض مع العقل الذي به يتم التكليف، وتحققت منجزات العالم من حولنا أفرادا أو جماعات أو مجتمعات أو دول من خلاله، وبفضل إعماله (أي العقل) في بواطن الأشياء وظواهرها.
أظن أن هناك من يحاول استغلال التقنية بشكل ذكي جدا لاستمرار قوة قبضته على طريقة تفكير المجتمع، وإيهامه بأن ما يطرحه هو السبيل الوحيد إلى السعادة والطمأنينة والنجاح وطول العمر وسرعة البديهة وقوة الذكاء، وقس على ذلك آلاف المزاعم التي لا تستند على العلم أو التجارب ذات البراهين والنتائج القطعية، بل تعتمد على نتائج ردات الفعل العاطفية المؤقتة في الغالب، والتي لا يمكن الاعتداد بنتائجها كإثبات على نجاح أو نجاعة أي شيء كمنجز ملموس.
يطرح هؤلاء ما لديهم على أنه السبيل والمخرج الوحيد الذي لا بد من تطبيقه وفق طريقتهم -وضعوا تحت (وفق) ألف خط وخط-.
ما يحدث في الواقع هو ضغط على أدمغة الناس باستغلال بواقي ما زرعته الصحوة المقيتة لإعادة السيطرة عليها مجددا، وهو أسلوب طالما برعت فيه الصحوة وحققت مكاسبها الكبيرة الواسعة عبره، فمن الشريط الذي كان يوزع بالمجان على أبواب المحلات وعند إشارات المرور إلى المطويات والمنشورات الورقية التي دخلت كل بيت واستهدفت عواطف الناس وسيطرت على عقولهم باسم الدين.
الحركة الأفقية لهؤلاء في أوساط المجتمعات العربية -التي تتحرك طبيعيا على نفس النمط كنتيجة بديهية لضعف عملية تنويرها-، تمنحهم مساحة أكبر باتجاه تسطيح التفكير الاجتماعي، لأنهم لن يقدموا شيئا ذا قيمة يمنحهم صعودا عموديا على مستوى العقل والإنجاز الفكري أو الثقافي أو الاقتصادي أو التقني، وهذه الحركة هي طبيعة الفكرة المستنسخة، تلك التي لا تقدم خطوة على طريق المنجز الإنساني، لكنها وسيلة مهمة لصناعة نسخ من القطعان البشرية فكريا، وهي أشد أعداء التنوع.
هؤلاء المساكين يعتقدون بل يؤمنون أنهم يمتلكون الوصفات السحرية الحقيقية لكل شيء وصولا إلى الغيبيات ! لذلك لا يجدون غضاضة في التصريح بالطريقة والكيفية التي تحقق فيها الغايات... هكذا بكل صفاقة يتحدث هؤلاء الذين يستحقون بجدارة لقب «المساكين» فكريا.