«إن ما يقوله لنا بولس عن بطرس يخبرنا عن بولس أكثر مما يخبرنا عن بطرس». هكذا قال سبينوزا ذات يوم، فإلى أي مدى تصدق عبارته وتطابق الواقع؟
جاء في صحيح مسلم أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». ربما يعرف أكثرنا هذا الحديث، فهو من النصوص المحورية التي يتكئ عليها خطابنا الديني السائد. ولكن ماذا عن طريقة تلقينا لهذا النص وكيفية قراءته؟
هل يستدعي مفهوم (التغيير باليد) الوارد في المتن نموذج (اليد البناءة)، بقدر ما يستدعي نموذج (اليد القاهرة)؟ إلى أي مدى قد يخطر على ذهن أحدنا أن التغيير باليد المشار إليه من الممكن أن يعبر عن حالة يرى فيها مدمنا على المخدرات فيأخذ بيده لتلقي العلاج، أو حالة يسد فيها جوع بغي ليكفها عن الاضطرار للحرام؟ هل هناك خطابٌ صرف المتلقين عن انفتاح النص على هذه الدلالات؟
ثم لو نظرنا إلى مفهوم (الاستطاعة) الذي يتضمنه المتن كذلك، فهل يخطر ببال أحدنا أن هذه الاستطاعة ليست متعلقة بالغلبة على وجه الضرورة، بل بقدرة الضمير على إجراء محاكمة يوازن فيها بين حقين أو أكثر، فيمنعه احترام حق فطري للآخرين من المبادرة إلى إنكار ما يكرهه؟ فإذا علم على سبيل المثال شاربا للخمر أغلق عليه باب داره حين يشربها، منعه احترام حرز ذلك المذنب أن ينتهكه بالإنكار عليه ولو كان ضعيفا واقعا تحت غلبته؟ من المؤسف أني أميل إلى صعوبة ورود مثل هذه الخواطر على أذهان الكثير من الناس اليوم! لا لأن دلالة النص ضاقت عن بلوغها، بل لأن الخطاب الكثيف الموازي لقراءته يحول دون التقاطها. بنظرة متأنية إلى سبل استدعاء هذا النص نكتشف أنها تصب غالبا في خانة التغيير باليد القاهرة التي لا تمنعها عن المضي في عزمها إلا مراعاتها لقوة يدٍ تفوقها قهرا، فالاستطاعة كما تحضر في هذا الخطاب هي «ألا يجر التغيير ضررا أكبر من المنكر الحاصل»، مع تأويل بأن هذا الضرر لا يصدر إلا عن اصطدام إرادة التغيير بما هو أشد قوة منها، وعليه فالأولى حينها هو الانكفاء وتحين الفرصة في زمن آخر، ومثل هذا لا يلزم عند التعامل مع قوة أضعف بطبيعة الحال. يعزز هذا المعنى عادة بالاستشهاد بأمثلة تحمل في مجملها المعنى التغالبي ذاته، وكأن المعيار الأخلاقي الجدير بالامتثال معيار يحترم القوة ويمجدها فحسب، دون اكتراث بفكرة الحقوق والأولويات التي يكفلها الدين لآحاد الناس، بصرف النظر عن مواقع قوتهم الاجتماعية. أدعو من رافقني إلى هذا المبلغ من المقال أن يتحسس أعماقه بصراحة ويتساءل من أين تسلل إلينا هذا المعيار الذي يعتد بالقوة كقبلة تنتظم حولها القيم، ويهمش الحق فيجعله قيمة تابعة لا متبوعة؟ وكيف تمكن منا هذا المعيار حتى أسقطناه على تعاملنا مع النصوص الدينية التي قد يكون لها شأن مغاير لو تعاطى معها أبناء ثقافة أخرى لم تصطبغ بلوثته؟ هل ما زلنا نستبطن قيمنا الصحراوية البدوية التي تدعونا إلى المغالبة أبدا؟ أم هو تأثرنا بقيم العولمة المادية التي تشربناها من خلال تجرعنا سيكولوجية الهزيمة إبان حقبة الاستعمار وما بعدها؟ أم نحن وعاءٌ امتزج فيه هذان العاملان وتفاعلا حتى أفرزا هذه الثقافة التي ما لبثت أن تدثرت بدثار الدين ونطقت بلسانه؟
عودا إلى التأمل في المتن، ما هي الظلال التي قد تردُ إلى قارئ خرج من رحم ثقافتنا الحالية عند وقوعه على مفردة (منكر)؟ وما هي المساحات التي انحصر فيها فضاؤه عند الإشارة إلى المنكرات؟ ما الذي أقحم لديه بعض ما صح فيه الاختلاف التراثي داخل دائرة منكراته؟ هل هو مجرد استناده إلى ما شاع في فريقه وألف القول بتحريمه؟ لعل الأمر كذلك على الأغلب، ولكن هذا يشير أيضا إلى هامشية احترام الحق لذاته، ومحورية الركون إلى القوة! وإلا فما الذي يمنع زاعما للتدين من المجاهدة في المعرفة، والصدق في طلب العلم؟
قد نفهم عند التعامل مع النص، أن تمييز (المنكر) وحقيقته يتطلب استعدادا معرفيا، كما يتطلب استيعاب معنى (التغيير) ومدلول (الاستطاعة) استعدادا روحيا وأخلاقيا. فالنص لا ينطق بذاته، بل ينطق به القارئ، والقارئ لا يعدم خلفية نفسية وثقافية يصدر منها. فحال طبائع النفوس في استقبال النص كحال طبائع الأشياء في استقبالها نور الشمس، منها ما يسْود ومنها ما يبْيض، ومنها ما يلين ومنها ما يشتد. ولا سبيل إلى الخلوص من ذلك إلا بمجاهدة النفس لتحيزاتها. «والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين».