أقوى الأطروحات المدافعة عن الدراسات الوصفية المسحية تستند على هذه الفكرة الرئيسية «المنهج الوصفي المسحي منهج علمي تم اختباره وتطويره على مدار قرون من التجارب والبحوث». يبدو لي أن المقصود بكون المنهج الوصفي المسحي منهجا علميا هنا هو أنه منهج موضوعي. بمعنى أن إجراءاته ليست خاضعة لتوجهات الباحث بقدر ما هي ملتزمة بإجراءات معدة سلفا. بالتأكيد أن الموضوعية قيمة أساسية في منهجية البحث باعتبارها مقاومة للأهواء الشخصية والنزعات الذاتية، لكن في المقابل الموضوعية لها جانبها السلبي الذي سأدعوه هنا بانفصال الباحث عن موضوعه. أو نظر الباحثة لموضوعها على أنه ظاهرة خارجية منفصلة عنها، وتصبح مهمتها حينئذ أن تراقبها من الخارج. هذا الجانب من «وهم الموضوعية» يمكن يفسر لنا عدم وجود الحماس والعلاقة الشخصية القوية بين الباحث الوصفي ودراساته. أقصد أن الباحث الوصفي يتحرك وكأنه تقني أمامه مهمة تطبيق عدد محدد من الإجراءات لا تعكس في الأخير شيئا من ذاته. هذا يمكن أن يفسر لنا ضعف الجدل العلمي والمعرفي في السياقات العلمية المقتصرة على الدراسات الوصفية.
مناقشتي لمقولة الموضوعية في الدراسات المسحية ستأخذ طريقين: الأول بحث دقة دعوى موضوعية البحث الوصفي والثاني تحليل للنتائج اللازمة لو قبلنا بالمقولة الموضوعية. بالنسبة لموضوعية البحث المسحي فإننا يمكن أن نلاحظ التالي: صحيح أن الإجراءات التصنيفية والإحصائية محددة كمنهجية لا تخضع لخيارات الباحث إلا أن لب الدراسة من اختيار الباحث وبالتالي قد يعكس انحيازاته وخياراته. على سبيل المثال في الفترة الماضية أتيحت لي الفرصة أن أقرأ عددا كبيرا من خطط البحوث الوصفية المسحية المعدة لدراسة تأثير السوشال ميديا على فئات مختلفة من المجتمع. في مقدمة تلك الدراسات تلاحظ مدى انحياز الباحث والباحثة حين يركز مثلا على الآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي ويدفع بالبحث باتجاه هذه النتيجة. مقدمة الدراسة هنا تعكس وجهة نظر الباحث وليست فقط مدخلا موضوعيا للدراسة. كذلك نجد أن شخصية الباحث وخياراته الفردية تدخل كذلك في البحث من خلال صياغة أسئلة الدراسة. السؤال هنا هو أول تحديد للإجابة. بمعنى أن صياغة السؤال قد تدفع بالإجابة في اتجاهات دون الأخرى. الاستبانة كذلك تعتبر مرتعا لدفع البحث باتجاهات دون الأخرى. الاستبانة تحدد المحاور الأساسية للبحث. عملية اختيار المحاور هذه دون الأخرى هي عملية خاضعة للباحث نفسه، وبالتالي فهي تضعف كثيرا من الحالة الموضوعية للبحث.
لكن على فرض أن البحث المسحي الوصفي فعلا بحث موضوعي فماذا يعني ذلك للبحوث في مجال الإنسانيات؟ لنأخذ التربية كمثال للبحوث الإنسانية. ماذا يعني أن تكون باحثا موضوعيا وأنت تقوم ببحث في التربية؟ الباحث أو الباحثة غالبا معلم أو معلمة منخرط يوميا في المشاكل التربوية مع الطلاب والطالبات. هذا الانخراط ذاتي وشخصي إلى درجة عميقة. من مارس التعليم يعلم أن جزءا كبيرا من نجاحه قائم على العلاقات الشخصية التي يستطيع المعلم أو المعلمة إقامتها مع طلابه. هذا هو الوضع في الميدان، ممارسة منغمسة في الذاتية والشخصية، ثم يأتي البحث ويطلب من الباحث والباحثة الخروج من هذا كله والتحول إلى مجرد جامع للمعلومات وموزع للاستبانات. نلاحظ هنا أن الباحث أو الباحثة قد يقومون بدراسة علمية كاملة عن البيئة التعليمية مستخدمين المنهجية الوصفية المسحية بدون أن يدخلوا في حوار حقيقي مع عينة الدراسة. عينة الدراسة التي كانت جزءا أساسيا من تجربة الباحثة أثناء عملها كمعلمة تتحول في البحث العلمي إلى مجرد خيارات في استبانة الدراسة. ما الذي نفتقده هنا؟ نفتقد ذلك التواصل المباشر الذي هو أصلا لب العملية التعليمية والتربوية. هذا التواصل يفترض أن يكون لب البحث العلمي لا أن يتم عزله واستبعاده في البحث. تحول عينة الدراسة إلى مجرد خيارات في استبانة الدراسة يضعف العلاقة بين الباحث وموضوع دراسته.
الدراسات الإنسانية تتعامل مع مجالات معقدة ومركبة جدا. لذا فإن الحصول على معلومات دقيقة عن تلك المجالات لا يمكن أن يتحقق بتوزيع استبانة تتم تعبئتها غالبا في ظروف غير مثالية. الاستبانة أداة غير تفاعلية والتواصل فيها بين الباحثة والعينة محدود جدا. العينة حقيقة لا تتحدث إنما تومئ إيماءات على أسئلة معدة سلفا. قارن ذلك مع إجراء مقابلات مطولة مع عينة الدراسة يتحقق فيها التواصل التفاعلي الحواري الذي يسمح للعينة فعلا أن تعبر عن نفسها مباشرة. المقابلة تعطي الباحث حالة من التواصل مناسبة إلى درجة كبيرة مع موضوع الدراسات الإنسانية الذي يمتاز بتعقيده وتركيبه وحاجته للوقت للوصول إلى معلومات دقيقة فعلا.
خلاصة القول أن القيمة الأساسية والميزة الأكثر تداولا في الدراسات الوصفية المسحية، قيمة الموضوعية يمكن مناقشتها من جهتين: الأولى أن هذه الموضوعية يمكن اختراقها في كثير من إجراءات البحث الخاضعة لخيارات الباحث والباحثة. في المقابل هذه الموضوعية أصلا قد تتسبب في عزل الباحث عن بيئة الدراسة وتحويله من عنصر مشارك ومتفاعل في بيئة الدراسة إلى عنصر خارجي مراقب يفتقد التواصل التفاعلي مع موضوع دراسته.